المتعصّبون يصادرون العالم والحقيقة في حمّى عصبياتهم

المتعصّبون يصادرون العالم والحقيقة في حمّى عصبياتهم

السكينة الإيمانية في مواجهة الحميّة الجاهلية :
المتعصّبون يصادرون العالم والحقيقة في حمّى عصبياتهم


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى: 

يقول الله تعالى في كتابه المجيد، وهو يضع الخط الفاصل بين الكافرين والمؤمنين بقيادة رسول الله (ص): {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحميّة حميّة الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليماً}.

إن الله تعالى يتحدث عن الطابع النفسي الذي يحكم العلاقات الاجتماعية في المجتمع الجاهلي، ويؤكد أن الإنسان الجاهلي يتربى على الأنفة، أي على الإحساس المرضي بذاته. وباختصار، فإن الحياة في نظرته إلى كل شيء لا يكون إلا من خلال ذاته، فهو لا يرى إلا نفسه إذا كان يتعصّب لنفسه، ولا يرى إلا عشيرته إذا كان يتعصّب لعشيرته، أو لا يرى إلا قوميته أو ما أشبه ذلك من التجمّعات أو العناوين التي يلتقي عليها الناس ويذوبون فيها.

الحمية تختزن التكبر

وهكذا، يتربى الإنسان في الجاهلية على التكبّر، لأن الحميّة تختزن التكبّر، أن تشعر بنفسك أنك أكبر من الآخر وأعظم منه، فالرجل يشعر بأنه أكبر من المرأة وأعظم منها، والشخص الذي ينتسب إلى عشيرة كبيرة يعتبر نفسه أكبر وأعظم من الذي لا ينتسب إلى عشيرة كبيرة، وهكذا نرى كيف أن المرأة الجميلة تشعر بالكبرياء ضد المرأة غير الجميلة، أو الشخص الذي يملك موقعاً اجتماعياً أو اقتصادياً أو سياسياً فإنه يجد نفسه أكبر وأعظم من الذي لا يملك هذا الموقع، لأنه يستغرق في جانب واحد ولا يدرس بقية الجوانب، والإنسان متعدّد الجوانب، فقد يتميّز شخص بالجمال والمال، وقد يتميّز شخص آخر عنه بالذكاء والعلم والعقل والخبرة... فالمطلوب أن يكون الإنسان واقعياً في نظرته إلى نفسه وإلى الآخرين، فيدرس ما عنده من خصائص وما عند الآخر من خصائص، حتى يعرف حجمه أمام الآخر، ويعرف حجم الآخر أمامه. من خلال ذلك، فإنك تزداد إنسانيةً عندما تكتشف الجانب القوي في شخصية الآخر، وتزداد تواضعاً عندما تكتشف تميّز الآخر عنك في بعض القضايا .

والله تعالى عبّر عن هذه الصفة والطبيعة بالحميّة: {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم ـ في عقولهم ومشاعرهم وأحاسيسهم ـ الحميّة حميّة الجاهلية}، ولذلك فإن الإنسان المتكبر والذي يشعر بالأنفة والتعاظم أمام الآخر، يعيش القلق، لأنه يظل يحدّق في نفسه ويشعر بالمشكلة عندما يتقدّمه الآخر في الحياة، أما الإنسان المؤمن، فالله تعالى أنزل في قلبه السكينة، والسكينة هي الطمأنينة وهدوء النفس والعقل والطبع، بحيث يدرس الأمور دراسةً منطقية وموضوعية في عملية مقارنة دقيقة، ولذلك فهو يشعر أنه إنسان يملك بعض صفات الإنسانية، وأن الإنسان الآخر يملك بعض صفات الإنسانية الأخرى، فهما وإن تفوّق أحدهما في جانب، إلا أنهما قد يتساويان عندما يقارنان فيما يملكان من مزايا وصِفات.

السكينة تختزن التقوى

ولذلك كان قوله تعالى: {فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ـ أعطاهم الطمأنينة النفسية من خلال السكينة العقلية ـ وألزمهم كلمة التقوى ـ وقال لهم كونوا الأتقياء، والتقوى هي أن تعرف أن لصاحبك حقاً ولك حقاً، وله فضيلة ولك فضيلة، وأن لا تتكبر عليه ولا تتعاظم عليه، وإذا كان لك بعض التميّز فإنه يملك في جانب آخر بعض التميّز، وهذا يحتاج إلى الكثير من التربية والتفكير والدراسة ليعرف الإنسان حجمه، لأن هناك حقيقة موجودة، وهي أن الإنسان يُحشر يوم القيامة بأخلاقه، فقد يخيّل للإنسان أنه في الدرجة العليا لأنه استغرق في بعض الجوانب، ولكن قد يكون في حقيقته في الدرجة السفلى، والله تعالى قال: {أفمن زُيّن له سوء عمله فرآه حسناً}، ويقول سبحانه: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً* الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً} ـ وكانوا أحق بها ـ بكلمة التقوى ـ وأهلها وكان الله بكل شيء عليما}.

العصبية تنتج الفتنة

من خلال هذا الخط الأخلاقي الإسلامي، جاءت الكلمات الرسولية والإمامية لتستوحي من كلمة "الحميّة" عنوان التعصّب، والتعصب هو أن يستغرق الإنسان في خصوصيته، بحيث يذوب فيها ويعمل على تدمير الآخرين للحفاظ عليها، فالإنسان الذي يعيش العصبية لشخصه، قد تدفعه هذه العصبية إلى أن يدمّر الإنسان الآخر لأنه يريد أن يحتفظ بكل المواقع لنفسه فقط، والإنسان الذي يتعصّب لعائلته وعشيرته، يحاول أن يستغرق في هذه العائلة أو العشيرة حتى يختصر العالم بهما، وهكذا الإنسان الذي يتعصّب لحزبه أو حركته أو منظمته أو لأيّ نوعٍ من التجمعات السياسية، فإن حمّى العصبية قد تدفعه إلى أن يستحل ما حرّم الله ضد الآخر، من أجل أن يحتفظ لنفسه أو لحزبه أو لتجمعه بالقوة، فلا يسمح للآخرين أن يكونوا أقوياء، بل يخطط بكل ما عنده من وسائل وأساليب في سبيل تحطيم الآخرين وتشويه صورتهم وإبعادهم عن دائرة الضوء، ولو كان ذلك بواسطة الكذب أو الغيبة أو النميمة، أو بتحريف الكلام عن مواضعه، أو بتقطيع الكلام حتى يُفهم منه غير الواقع، لأنّ الإنسان إذا تعصّب فقد التقوى وعاش في حمّى عصبيته، فهو ينسى ربه ويستغرق في قيادة حزبه أو حركته أو منظمته، بحيث يعيش نوعاً من عبادة الشخصية..

وهكذا، نجد أن العصبية تنتج الفتنة عندما تثار الوسائل المخابراتية بالإشاعات الكاذبة والجدل العقيم، وربما نجد أن بعض الناس ـ على حسب التعبير ـ "يذبحها على القبلة"، فيتعصّب لهوى في نفسه ولكنه يحاول أن يغلّف ذلك بغلاف ديني وشرعي. ومن هنا نجد كيف انتشرت الفتن في داخل المجتمعات الدينية، سواء كانت في مذهب واحد أو في مذاهب متعددة أو في أديان متعددة، لأن القائمين على شؤون الدين يشجّعون الناس على تدمير الآخر وعدم فهمه وعدم الاعتراف به، وهذا ما يثير الخلافات والنزاعات والتقاتل في المجتمع.

مخاطر العصبية

لنقرأ بعض الأحاديث الواردة في هذا المجال لنعرف خطورة العصبية على الإيمان والتقوى والأمة كلها. فقد ورد عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: "من تعصّب ـ لشخصٍ أو لجهةٍ أو لعشيرةٍ أو لمنظّمة أو ما إلى ذلك ـ أو تُعصّب له ـ بحيث شجّع الآخرين على التعصب له ـ فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه"، لأنه أصبح يعبد عصبيته ولا يعبد ربه. وعنه (ع) قال: "قال رسول الله (ص): من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية ـ وهي كناية عن الشيء القليل ـ بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية"، حتى لو صام وصلى وحجّ وما أشبه ذلك، لأن العصبية تجعل الإنسان يفكر بالعقلية الجاهلية التي تلتزم الشخص ولا تلتزم الله. وعن الإمام الصادق (ع) قال: "من تعصّب عصّبه الله بعصابة من نار"..

وعن علي بن الحسين (ع) قال: "لم يدخل الجنة حميّة غير حميّة حمزة بن عبد المطلب، وذلك حين أسلم غضباً للنبي (ص) في حديث "السلا" الذي أُلقي على النبي (ص)"، فحمزة عمّ النبي (ص) لم يدخل في الإسلام منذ بداية الدعوة، ولم يتمرد عليه أو يقف ضده، بل كان ينتظر ما ستؤول إليه الأمور، حتى إذا رأى المشركين وهم يضعون أمعاء الجزور ويضعونه على ظهر النبي، عند ذلك ثارت حميته وهجم عليهم، وقال لهم: ويحكم، إني على دينه، وبذلك دفعته عصبيته في البداية إلى أن يعلن إسلامه أمام المشركين بكل قوة ويتحداهم في إسلامه، ثم أصبح سيد الشهداء في "أحد" بعد ذلك.

وعن أبي عبد الله الصادق (ع) قال: "إن الملائكة كانوا يحسبون أن إبليس منهم ـ لأن إبليس كان يُعبّر عنه بـ"طاووس الملائكة" من كثرة عبادته ـ وكان في علم الله أنه ليس منهم، فاستخرج ما في نفسه بالحميّة والغضب"، فقد كان متكبراً وحسوداً ولكنه غطى هذه الصفات بعبادته.

وقد سئل الإمام زين العابدين (ع) عن العصبية فقال: "إن العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين ـ وهذا يتمثّل بما قد نراه أن الإنسان عندما يجد شخصاً من قومه يختلف مع شخص من قوم آخرين، فإنه يدخل المعركة ويحاول أن يعين صاحبه على ذاك من دون أن يتعرّف الظالم من المظلوم، بل ينصره لمجرد أنه من جماعته، وهذا أمر نعيشه داخل العائلة والعشيرة والطائفة والمذهب ـ وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ـ فالإنسان مجبول ومطبوع على أن يحب قومه، بشرط أن لا يتجاوز هذا الحب المبادئ ـ ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم".

لقد قتلتنا العصبيات وهزمتنا، وقد مزّقتنا وأبعدتنا عن الله وعن ديننا وقرّبتنا إلى الشيطان، ولذلك فإن علينا أن نسهر على إيماننا وتقوانا حتى نحفظهما من العصبية، وأن نحفظ أمتنا من العصبية، لأن المسألة تتصل بالدنيا من جهة، وبالآخرة من جهة أخرى، {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وواجهوا العصبية بالتقوى، وواجهوا الفرقة بالوحدة، وواجهوا التحديات الكبرى من المستكبرين بالموقف الذي يحبه الله، {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}، إننا بحاجة إلى المحبة التي ترجع إلينا أخوّتنا الإيمانية، فنبتعد عن كل ما يفرّق بيننا، فلا تنتجوا الحقد بفعل عصبياتكم، ولا تحاولوا أن تزرعوا الحقد ضد الشخص أو الجماعة من خلال تجمعاتكم، ولا سيما ما تفعله بعض التجمّعات الحزبية والسياسية والطائفية بتربية الجيل الجديد من المراهقين على العصبية والحقد وبغض الآخر وعدم الاعتراف به، وعلى كل المعاني التي تجعل الإنسان وهو في طفولته الأولى بعيداً عن أن يفكر ويتعلم أو يناقش..

إنّ أطفالنا أمانة الله في أعناقنا، وعلى الذين يتولون مهمة توجيه الأطفال أن يتقوا الله فيهم، فلا يربوهم على العداوة والحقد والبغضاء، لأنه إذا تربى على ذلك فقد براءته وإنسانيته وإحساسه بربه وبالإنسان الآخر، وفقد بعد ذلك الموقع القوي في مواجهة المستكبرين الذين يستغلون عصبياتنا من أجل أن يلحقوا بنا الهزيمة قبل أن ندخل المعركة.. فماذا هناك؟

ظمأٌ أمريكي للدم العربي والإسلامي

لا تزال حرب إسرائيل على المدن الفلسطينية مستمرة، في مفاعيلها الوحشية التدميرية، بفعل حاجة الانتخابات الإسرائيلية إلى المزيد من الدم الفلسطيني في العمليات العسكرية، في نطاق الداخل الصهيوني، وبتأثير الحاجة الانتخابية الرئاسية المقبلة للرئيس الأمريكي وحزبه، للحصول على تأييد اليهود الأمريكيين والمسيحيين المتصهينين من جهة أخرى، ما يجعل الموقف الأمريكي السياسي يدعم الموقف الإسرائيلي، ضماناً لنجاح "الليكود" في الانتخابات من أجل نجاح جمهوري أمريكي رئاسي مماثل.. ولا مشكلة لدى الرئيس الأمريكي الذي تحوّل بفعل إدارته النازية، وأطماعه الرئاسية، وعقدته الشخصية، إلى ما يشبه الجنون الهستيري في ظمئه للدم العربي والإسلامي، تحت أكثر من شعار لا يملك الكثير من الواقعية..

لقد تخلى الرئيس الأمريكي عن كل حقوق الإنسان العربي والمسلم والفلسطيني، ولا ندري ما هي نظرة الحق الإنساني لارتهان المعتقلين في "غوانتانامو" من دون محاكمة أو أية أوضاع إنسانية؟؟ وربما تتحدث أمريكا مع إسرائيل بحياء وخجل عن الحكمة في إقفال جامعتين في الخليل، أو في تدمير البيوت وتشريد أهلها الأبرياء منها، ولكنها لا تقدّم احتجاجاً ولا تبعث تأنيباً، بينما إذا قام الفلسطينيون بأقل من ذلك، فإن الصراخ الأمريكي يرتفع بإدانة الإرهاب، وتبرير المجازر الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني!!

المؤتمر البريطاني: خداع الفلسطينيين

أما المؤتمر البريطاني في المسألة الفلسطينية، الذي لم يحضره الفلسطينيون إلا تلفزيونياً، فهو نكتة سياسية يُراد من خلالها خداع الفلسطينيين، بالإيحاء بأن اللجنة الرباعية الدولية لا تزال مهتمة بالقضية الفلسطينية، ولكن بالطريقة التي تقطّع أوصالها بالتعديلات الإسرائيلية التي لا تملك أمامها أيّ ممانعة أو اعتراض، لأن القرار الأمريكي جاهز لتعطيل أية مبادرة دولية لا ترتاح لها إسرائيل!!

إن المطلوب ـ دولياً ـ هو إيصال الفلسطينيين إلى مرحلة التعب اليائس، من أجل إجبارهم على تقديم التنازلات للعدو، ثم العمل على إدخالهم في متاهات الهدنة من طرف واحد، لتجميد الانتفاضة من دون أيّ التزام إسرائيلي أو أمريكي بإيقاف الحملة الوحشية ضد الشعب الفلسطيني، اعتقالاً واغتيالاً وتدميراً، تحت شعار إثبات حسن سلوك الفلسطينيين في الالتزام بالسلام لإسرائيل، من دون أيّ ضمان للسلام للفلسطينيين..

أمريكا تدخل العالم في النفق المظلم

والسؤال الذي يفرض نفسه: ما هو الحق القانوني الدولي الذي يمنح أمريكا وبريطانيا حق إعلان الحرب على أية دولة لا تمثّل خطراً مباشراً على أمنها الذاتي الوطني، حتى لو لم تصدر الأمم المتحدة قراراً بالحرب ـ كما هو تصريح المسؤولين الأمريكيين والبريطانيين ـ وما هي مهمة مجلس الأمن الدولي، وما هي قيمة الأعضاء فيه، سواء كانوا من الدول الدائمة العضوية أو من غيرها؟؟ ثم، كيف يمكن أن تشعر أية دولة من دول العالم الثالث بالأمن إذا كانت التسويات تحصل بين الدول الكبرى، من خلال صفقات مالية أو سياسية أو أمنية لا تراعي مصالح الشعوب؟!

لقد أدخلت أمريكا العالم المعاصر في النفق المظلم، بفعل قوتها المدمّرة على جميع المستويات.. والسؤال: ما هو موقف الشعوب الباحثة عن حريتها وسلامها، وما هو معنى التجمّع العربي للدول العربية، أو التنظيم الإسلامي للدول الإسلامية؟ هل تحوّل العالم إلى أصفار لا تملك أيّ رقم يحفظ لها معناها في حسابات الأرقام المحترمة على صعيد المصالح؟؟

إن الطريقة الأمريكية في الضغوط السياسية والعسكرية والاقتصادية المفروضة على الشعوب، تمنع هذه الشعوب من الثقة بأيّ نوع من التحالف أو التعاون مع أمريكا، تحت تأثير عناوين الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، لأن السياسة الأمريكية تمثّل الكذبة الكبرى في ذلك كله..

المبادرة السعودية!!!

وفي جانب آخر، فإن هناك حديثاً عن عهد عربي تطلقه المبادرة السعودية من أجل الدفاع المشترك والمصالح المشتركة والموقف الموحَّد ضد التحديات ومواجهة الصهيونية، في الوقوف مع الشعب الفلسطيني، والجدّية في دعم القضية الفلسطينية باعتبار أنها تمثّل المصير العربي المشترك.. والسؤال: هل ننتظر لهذه المبادرة أن تبصر النور، وهل يوافق العرب الذين مزّقتهم الصدمات واللكمات والتحديات على الحديث عن عنوان عربي بعيد عن القطرية والإقليمية، أم أن هذه المبادرة سوف يكون حظها كحظ المبادرة العربية في قمة بيروت؟ وهل نبقى في صفوف الانتظار ريثما يسمح لنا الآخرون بالتقدّم؟

معالجة مسؤولة للقضايا

أما في لبنان، ولا سيما المنطقة الحدودية فيه، فإنّ الناس لا يملكون السير على أكثر الطرقات الخالية من الزفت، ولكنهم يواجهون أكثر من حالة من حالات الزفت الاقتصادي والإنمائي، ولا سيما فيما يتصل بالبلديات التي تفقد المساعدة فأصبحت على حافة السقوط..

ومن جهة أخرى، فإن مسألة تمويل صندوق الضمان الذي هو صندوق العمّال والموظفين والفقراء، لا تزال تفرض نفسها في الخطوات السلحفاتية التي لا تسمن ولا تغني من جوع.. وهناك نقطة مهمة، وهي أن هناك أكثر من دعوة للإضراب والتظاهر، وهذا هو حق الشعب في التعبير السلمي عن مطالبه وحقوقه..

ولكنّ السؤال هو: هل من حقّ الحكومة أن تقوم بالإضراب عن معالجة قضايا المواطنين التنموية والإعلامية والخدماتية والمعيشية بشكل عام؟ وهل يملك المسؤولون الحرية في التقاطع والتباعد عن بعضهم البعض، بحيث تتجمّد المسيرة السياسية والاقتصادية بفعل عدم اللقاء؟ إن المسؤول ـ في أيّ موقع رئاسي أو وزاري ـ لا يملك حرية الإضراب عن الحكم وإصدار القرارات.. وإنني أتساءل: هل هناك دولة في العالم المتحضّر تحترم نفسها يتقاطع المسؤولون فيها عن الاجتماع واللقاء والدراسة الفعّالة لقضايا الناس؟؟

إن القضية هي أن هناك قانوناً يحكم البلد كله، وأن هناك حكماً وحكومة يتحمّلان مسؤولية تنفيذه بطريقة سلمية أمينة، وأن هناك مجلساً يملك حق الرقابة، فإما أن يتحمّل كل هؤلاء مسؤولياتهم حتى على خلاف مزاجهم الشخصي، وإما أن يستقيلوا، لأن البلد ليس ملك أحد منهم، بل هو أمانة الله في أعناق الجميع، الشعب والحكم والحكومة.. فهل من جواب؟

السكينة الإيمانية في مواجهة الحميّة الجاهلية :
المتعصّبون يصادرون العالم والحقيقة في حمّى عصبياتهم


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى: 

يقول الله تعالى في كتابه المجيد، وهو يضع الخط الفاصل بين الكافرين والمؤمنين بقيادة رسول الله (ص): {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحميّة حميّة الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليماً}.

إن الله تعالى يتحدث عن الطابع النفسي الذي يحكم العلاقات الاجتماعية في المجتمع الجاهلي، ويؤكد أن الإنسان الجاهلي يتربى على الأنفة، أي على الإحساس المرضي بذاته. وباختصار، فإن الحياة في نظرته إلى كل شيء لا يكون إلا من خلال ذاته، فهو لا يرى إلا نفسه إذا كان يتعصّب لنفسه، ولا يرى إلا عشيرته إذا كان يتعصّب لعشيرته، أو لا يرى إلا قوميته أو ما أشبه ذلك من التجمّعات أو العناوين التي يلتقي عليها الناس ويذوبون فيها.

الحمية تختزن التكبر

وهكذا، يتربى الإنسان في الجاهلية على التكبّر، لأن الحميّة تختزن التكبّر، أن تشعر بنفسك أنك أكبر من الآخر وأعظم منه، فالرجل يشعر بأنه أكبر من المرأة وأعظم منها، والشخص الذي ينتسب إلى عشيرة كبيرة يعتبر نفسه أكبر وأعظم من الذي لا ينتسب إلى عشيرة كبيرة، وهكذا نرى كيف أن المرأة الجميلة تشعر بالكبرياء ضد المرأة غير الجميلة، أو الشخص الذي يملك موقعاً اجتماعياً أو اقتصادياً أو سياسياً فإنه يجد نفسه أكبر وأعظم من الذي لا يملك هذا الموقع، لأنه يستغرق في جانب واحد ولا يدرس بقية الجوانب، والإنسان متعدّد الجوانب، فقد يتميّز شخص بالجمال والمال، وقد يتميّز شخص آخر عنه بالذكاء والعلم والعقل والخبرة... فالمطلوب أن يكون الإنسان واقعياً في نظرته إلى نفسه وإلى الآخرين، فيدرس ما عنده من خصائص وما عند الآخر من خصائص، حتى يعرف حجمه أمام الآخر، ويعرف حجم الآخر أمامه. من خلال ذلك، فإنك تزداد إنسانيةً عندما تكتشف الجانب القوي في شخصية الآخر، وتزداد تواضعاً عندما تكتشف تميّز الآخر عنك في بعض القضايا .

والله تعالى عبّر عن هذه الصفة والطبيعة بالحميّة: {إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم ـ في عقولهم ومشاعرهم وأحاسيسهم ـ الحميّة حميّة الجاهلية}، ولذلك فإن الإنسان المتكبر والذي يشعر بالأنفة والتعاظم أمام الآخر، يعيش القلق، لأنه يظل يحدّق في نفسه ويشعر بالمشكلة عندما يتقدّمه الآخر في الحياة، أما الإنسان المؤمن، فالله تعالى أنزل في قلبه السكينة، والسكينة هي الطمأنينة وهدوء النفس والعقل والطبع، بحيث يدرس الأمور دراسةً منطقية وموضوعية في عملية مقارنة دقيقة، ولذلك فهو يشعر أنه إنسان يملك بعض صفات الإنسانية، وأن الإنسان الآخر يملك بعض صفات الإنسانية الأخرى، فهما وإن تفوّق أحدهما في جانب، إلا أنهما قد يتساويان عندما يقارنان فيما يملكان من مزايا وصِفات.

السكينة تختزن التقوى

ولذلك كان قوله تعالى: {فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ـ أعطاهم الطمأنينة النفسية من خلال السكينة العقلية ـ وألزمهم كلمة التقوى ـ وقال لهم كونوا الأتقياء، والتقوى هي أن تعرف أن لصاحبك حقاً ولك حقاً، وله فضيلة ولك فضيلة، وأن لا تتكبر عليه ولا تتعاظم عليه، وإذا كان لك بعض التميّز فإنه يملك في جانب آخر بعض التميّز، وهذا يحتاج إلى الكثير من التربية والتفكير والدراسة ليعرف الإنسان حجمه، لأن هناك حقيقة موجودة، وهي أن الإنسان يُحشر يوم القيامة بأخلاقه، فقد يخيّل للإنسان أنه في الدرجة العليا لأنه استغرق في بعض الجوانب، ولكن قد يكون في حقيقته في الدرجة السفلى، والله تعالى قال: {أفمن زُيّن له سوء عمله فرآه حسناً}، ويقول سبحانه: {قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً* الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً} ـ وكانوا أحق بها ـ بكلمة التقوى ـ وأهلها وكان الله بكل شيء عليما}.

العصبية تنتج الفتنة

من خلال هذا الخط الأخلاقي الإسلامي، جاءت الكلمات الرسولية والإمامية لتستوحي من كلمة "الحميّة" عنوان التعصّب، والتعصب هو أن يستغرق الإنسان في خصوصيته، بحيث يذوب فيها ويعمل على تدمير الآخرين للحفاظ عليها، فالإنسان الذي يعيش العصبية لشخصه، قد تدفعه هذه العصبية إلى أن يدمّر الإنسان الآخر لأنه يريد أن يحتفظ بكل المواقع لنفسه فقط، والإنسان الذي يتعصّب لعائلته وعشيرته، يحاول أن يستغرق في هذه العائلة أو العشيرة حتى يختصر العالم بهما، وهكذا الإنسان الذي يتعصّب لحزبه أو حركته أو منظمته أو لأيّ نوعٍ من التجمعات السياسية، فإن حمّى العصبية قد تدفعه إلى أن يستحل ما حرّم الله ضد الآخر، من أجل أن يحتفظ لنفسه أو لحزبه أو لتجمعه بالقوة، فلا يسمح للآخرين أن يكونوا أقوياء، بل يخطط بكل ما عنده من وسائل وأساليب في سبيل تحطيم الآخرين وتشويه صورتهم وإبعادهم عن دائرة الضوء، ولو كان ذلك بواسطة الكذب أو الغيبة أو النميمة، أو بتحريف الكلام عن مواضعه، أو بتقطيع الكلام حتى يُفهم منه غير الواقع، لأنّ الإنسان إذا تعصّب فقد التقوى وعاش في حمّى عصبيته، فهو ينسى ربه ويستغرق في قيادة حزبه أو حركته أو منظمته، بحيث يعيش نوعاً من عبادة الشخصية..

وهكذا، نجد أن العصبية تنتج الفتنة عندما تثار الوسائل المخابراتية بالإشاعات الكاذبة والجدل العقيم، وربما نجد أن بعض الناس ـ على حسب التعبير ـ "يذبحها على القبلة"، فيتعصّب لهوى في نفسه ولكنه يحاول أن يغلّف ذلك بغلاف ديني وشرعي. ومن هنا نجد كيف انتشرت الفتن في داخل المجتمعات الدينية، سواء كانت في مذهب واحد أو في مذاهب متعددة أو في أديان متعددة، لأن القائمين على شؤون الدين يشجّعون الناس على تدمير الآخر وعدم فهمه وعدم الاعتراف به، وهذا ما يثير الخلافات والنزاعات والتقاتل في المجتمع.

مخاطر العصبية

لنقرأ بعض الأحاديث الواردة في هذا المجال لنعرف خطورة العصبية على الإيمان والتقوى والأمة كلها. فقد ورد عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: "من تعصّب ـ لشخصٍ أو لجهةٍ أو لعشيرةٍ أو لمنظّمة أو ما إلى ذلك ـ أو تُعصّب له ـ بحيث شجّع الآخرين على التعصب له ـ فقد خلع ربقة الإيمان من عنقه"، لأنه أصبح يعبد عصبيته ولا يعبد ربه. وعنه (ع) قال: "قال رسول الله (ص): من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية ـ وهي كناية عن الشيء القليل ـ بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية"، حتى لو صام وصلى وحجّ وما أشبه ذلك، لأن العصبية تجعل الإنسان يفكر بالعقلية الجاهلية التي تلتزم الشخص ولا تلتزم الله. وعن الإمام الصادق (ع) قال: "من تعصّب عصّبه الله بعصابة من نار"..

وعن علي بن الحسين (ع) قال: "لم يدخل الجنة حميّة غير حميّة حمزة بن عبد المطلب، وذلك حين أسلم غضباً للنبي (ص) في حديث "السلا" الذي أُلقي على النبي (ص)"، فحمزة عمّ النبي (ص) لم يدخل في الإسلام منذ بداية الدعوة، ولم يتمرد عليه أو يقف ضده، بل كان ينتظر ما ستؤول إليه الأمور، حتى إذا رأى المشركين وهم يضعون أمعاء الجزور ويضعونه على ظهر النبي، عند ذلك ثارت حميته وهجم عليهم، وقال لهم: ويحكم، إني على دينه، وبذلك دفعته عصبيته في البداية إلى أن يعلن إسلامه أمام المشركين بكل قوة ويتحداهم في إسلامه، ثم أصبح سيد الشهداء في "أحد" بعد ذلك.

وعن أبي عبد الله الصادق (ع) قال: "إن الملائكة كانوا يحسبون أن إبليس منهم ـ لأن إبليس كان يُعبّر عنه بـ"طاووس الملائكة" من كثرة عبادته ـ وكان في علم الله أنه ليس منهم، فاستخرج ما في نفسه بالحميّة والغضب"، فقد كان متكبراً وحسوداً ولكنه غطى هذه الصفات بعبادته.

وقد سئل الإمام زين العابدين (ع) عن العصبية فقال: "إن العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين ـ وهذا يتمثّل بما قد نراه أن الإنسان عندما يجد شخصاً من قومه يختلف مع شخص من قوم آخرين، فإنه يدخل المعركة ويحاول أن يعين صاحبه على ذاك من دون أن يتعرّف الظالم من المظلوم، بل ينصره لمجرد أنه من جماعته، وهذا أمر نعيشه داخل العائلة والعشيرة والطائفة والمذهب ـ وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ـ فالإنسان مجبول ومطبوع على أن يحب قومه، بشرط أن لا يتجاوز هذا الحب المبادئ ـ ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم".

لقد قتلتنا العصبيات وهزمتنا، وقد مزّقتنا وأبعدتنا عن الله وعن ديننا وقرّبتنا إلى الشيطان، ولذلك فإن علينا أن نسهر على إيماننا وتقوانا حتى نحفظهما من العصبية، وأن نحفظ أمتنا من العصبية، لأن المسألة تتصل بالدنيا من جهة، وبالآخرة من جهة أخرى، {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وواجهوا العصبية بالتقوى، وواجهوا الفرقة بالوحدة، وواجهوا التحديات الكبرى من المستكبرين بالموقف الذي يحبه الله، {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}، إننا بحاجة إلى المحبة التي ترجع إلينا أخوّتنا الإيمانية، فنبتعد عن كل ما يفرّق بيننا، فلا تنتجوا الحقد بفعل عصبياتكم، ولا تحاولوا أن تزرعوا الحقد ضد الشخص أو الجماعة من خلال تجمعاتكم، ولا سيما ما تفعله بعض التجمّعات الحزبية والسياسية والطائفية بتربية الجيل الجديد من المراهقين على العصبية والحقد وبغض الآخر وعدم الاعتراف به، وعلى كل المعاني التي تجعل الإنسان وهو في طفولته الأولى بعيداً عن أن يفكر ويتعلم أو يناقش..

إنّ أطفالنا أمانة الله في أعناقنا، وعلى الذين يتولون مهمة توجيه الأطفال أن يتقوا الله فيهم، فلا يربوهم على العداوة والحقد والبغضاء، لأنه إذا تربى على ذلك فقد براءته وإنسانيته وإحساسه بربه وبالإنسان الآخر، وفقد بعد ذلك الموقع القوي في مواجهة المستكبرين الذين يستغلون عصبياتنا من أجل أن يلحقوا بنا الهزيمة قبل أن ندخل المعركة.. فماذا هناك؟

ظمأٌ أمريكي للدم العربي والإسلامي

لا تزال حرب إسرائيل على المدن الفلسطينية مستمرة، في مفاعيلها الوحشية التدميرية، بفعل حاجة الانتخابات الإسرائيلية إلى المزيد من الدم الفلسطيني في العمليات العسكرية، في نطاق الداخل الصهيوني، وبتأثير الحاجة الانتخابية الرئاسية المقبلة للرئيس الأمريكي وحزبه، للحصول على تأييد اليهود الأمريكيين والمسيحيين المتصهينين من جهة أخرى، ما يجعل الموقف الأمريكي السياسي يدعم الموقف الإسرائيلي، ضماناً لنجاح "الليكود" في الانتخابات من أجل نجاح جمهوري أمريكي رئاسي مماثل.. ولا مشكلة لدى الرئيس الأمريكي الذي تحوّل بفعل إدارته النازية، وأطماعه الرئاسية، وعقدته الشخصية، إلى ما يشبه الجنون الهستيري في ظمئه للدم العربي والإسلامي، تحت أكثر من شعار لا يملك الكثير من الواقعية..

لقد تخلى الرئيس الأمريكي عن كل حقوق الإنسان العربي والمسلم والفلسطيني، ولا ندري ما هي نظرة الحق الإنساني لارتهان المعتقلين في "غوانتانامو" من دون محاكمة أو أية أوضاع إنسانية؟؟ وربما تتحدث أمريكا مع إسرائيل بحياء وخجل عن الحكمة في إقفال جامعتين في الخليل، أو في تدمير البيوت وتشريد أهلها الأبرياء منها، ولكنها لا تقدّم احتجاجاً ولا تبعث تأنيباً، بينما إذا قام الفلسطينيون بأقل من ذلك، فإن الصراخ الأمريكي يرتفع بإدانة الإرهاب، وتبرير المجازر الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني!!

المؤتمر البريطاني: خداع الفلسطينيين

أما المؤتمر البريطاني في المسألة الفلسطينية، الذي لم يحضره الفلسطينيون إلا تلفزيونياً، فهو نكتة سياسية يُراد من خلالها خداع الفلسطينيين، بالإيحاء بأن اللجنة الرباعية الدولية لا تزال مهتمة بالقضية الفلسطينية، ولكن بالطريقة التي تقطّع أوصالها بالتعديلات الإسرائيلية التي لا تملك أمامها أيّ ممانعة أو اعتراض، لأن القرار الأمريكي جاهز لتعطيل أية مبادرة دولية لا ترتاح لها إسرائيل!!

إن المطلوب ـ دولياً ـ هو إيصال الفلسطينيين إلى مرحلة التعب اليائس، من أجل إجبارهم على تقديم التنازلات للعدو، ثم العمل على إدخالهم في متاهات الهدنة من طرف واحد، لتجميد الانتفاضة من دون أيّ التزام إسرائيلي أو أمريكي بإيقاف الحملة الوحشية ضد الشعب الفلسطيني، اعتقالاً واغتيالاً وتدميراً، تحت شعار إثبات حسن سلوك الفلسطينيين في الالتزام بالسلام لإسرائيل، من دون أيّ ضمان للسلام للفلسطينيين..

أمريكا تدخل العالم في النفق المظلم

والسؤال الذي يفرض نفسه: ما هو الحق القانوني الدولي الذي يمنح أمريكا وبريطانيا حق إعلان الحرب على أية دولة لا تمثّل خطراً مباشراً على أمنها الذاتي الوطني، حتى لو لم تصدر الأمم المتحدة قراراً بالحرب ـ كما هو تصريح المسؤولين الأمريكيين والبريطانيين ـ وما هي مهمة مجلس الأمن الدولي، وما هي قيمة الأعضاء فيه، سواء كانوا من الدول الدائمة العضوية أو من غيرها؟؟ ثم، كيف يمكن أن تشعر أية دولة من دول العالم الثالث بالأمن إذا كانت التسويات تحصل بين الدول الكبرى، من خلال صفقات مالية أو سياسية أو أمنية لا تراعي مصالح الشعوب؟!

لقد أدخلت أمريكا العالم المعاصر في النفق المظلم، بفعل قوتها المدمّرة على جميع المستويات.. والسؤال: ما هو موقف الشعوب الباحثة عن حريتها وسلامها، وما هو معنى التجمّع العربي للدول العربية، أو التنظيم الإسلامي للدول الإسلامية؟ هل تحوّل العالم إلى أصفار لا تملك أيّ رقم يحفظ لها معناها في حسابات الأرقام المحترمة على صعيد المصالح؟؟

إن الطريقة الأمريكية في الضغوط السياسية والعسكرية والاقتصادية المفروضة على الشعوب، تمنع هذه الشعوب من الثقة بأيّ نوع من التحالف أو التعاون مع أمريكا، تحت تأثير عناوين الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، لأن السياسة الأمريكية تمثّل الكذبة الكبرى في ذلك كله..

المبادرة السعودية!!!

وفي جانب آخر، فإن هناك حديثاً عن عهد عربي تطلقه المبادرة السعودية من أجل الدفاع المشترك والمصالح المشتركة والموقف الموحَّد ضد التحديات ومواجهة الصهيونية، في الوقوف مع الشعب الفلسطيني، والجدّية في دعم القضية الفلسطينية باعتبار أنها تمثّل المصير العربي المشترك.. والسؤال: هل ننتظر لهذه المبادرة أن تبصر النور، وهل يوافق العرب الذين مزّقتهم الصدمات واللكمات والتحديات على الحديث عن عنوان عربي بعيد عن القطرية والإقليمية، أم أن هذه المبادرة سوف يكون حظها كحظ المبادرة العربية في قمة بيروت؟ وهل نبقى في صفوف الانتظار ريثما يسمح لنا الآخرون بالتقدّم؟

معالجة مسؤولة للقضايا

أما في لبنان، ولا سيما المنطقة الحدودية فيه، فإنّ الناس لا يملكون السير على أكثر الطرقات الخالية من الزفت، ولكنهم يواجهون أكثر من حالة من حالات الزفت الاقتصادي والإنمائي، ولا سيما فيما يتصل بالبلديات التي تفقد المساعدة فأصبحت على حافة السقوط..

ومن جهة أخرى، فإن مسألة تمويل صندوق الضمان الذي هو صندوق العمّال والموظفين والفقراء، لا تزال تفرض نفسها في الخطوات السلحفاتية التي لا تسمن ولا تغني من جوع.. وهناك نقطة مهمة، وهي أن هناك أكثر من دعوة للإضراب والتظاهر، وهذا هو حق الشعب في التعبير السلمي عن مطالبه وحقوقه..

ولكنّ السؤال هو: هل من حقّ الحكومة أن تقوم بالإضراب عن معالجة قضايا المواطنين التنموية والإعلامية والخدماتية والمعيشية بشكل عام؟ وهل يملك المسؤولون الحرية في التقاطع والتباعد عن بعضهم البعض، بحيث تتجمّد المسيرة السياسية والاقتصادية بفعل عدم اللقاء؟ إن المسؤول ـ في أيّ موقع رئاسي أو وزاري ـ لا يملك حرية الإضراب عن الحكم وإصدار القرارات.. وإنني أتساءل: هل هناك دولة في العالم المتحضّر تحترم نفسها يتقاطع المسؤولون فيها عن الاجتماع واللقاء والدراسة الفعّالة لقضايا الناس؟؟

إن القضية هي أن هناك قانوناً يحكم البلد كله، وأن هناك حكماً وحكومة يتحمّلان مسؤولية تنفيذه بطريقة سلمية أمينة، وأن هناك مجلساً يملك حق الرقابة، فإما أن يتحمّل كل هؤلاء مسؤولياتهم حتى على خلاف مزاجهم الشخصي، وإما أن يستقيلوا، لأن البلد ليس ملك أحد منهم، بل هو أمانة الله في أعناق الجميع، الشعب والحكم والحكومة.. فهل من جواب؟

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير