في ذكرى عاشوراء: نعيش مع الحسين(ع) في إمامته كما نعيش معه في شهادته ومأساته...

في ذكرى عاشوراء: نعيش مع الحسين(ع) في إمامته كما نعيش معه في شهادته ومأساته...
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته: 

الخطبة الأولى
الحسين(ع) في شخصيَّته العقلانيَّة:

في هذه الأيَّام، نعيش مع الإمام الحسين(ع) في ذكرى عاشوراء، التي تمتدُّ إلى كلِّ أيام السنة، لأنَّ الحسين(ع) ليس شخصيةً منفصلةً عن عقولنا، فقد دخل(ع) في العقل من خلال شخصيته العقلانية، ودخل في الشعور والإحساس من خلال كلِّ مشاعرنا وأحاسيسنا المليئة بالحبِّ له، فنحن نحب الحسين(ع) بكلِّ أحاسيسنا، لأنّنا لا نستطيع إلاّ أن نحبَّه كما أحبه الله سبحانه وتعالى، وكما أحبَّه رسول الله(ص)، وكما أحبّ الأمّة الّتي انطلق معها ليرعاها ولينمّيها وليقوّيها وليضحِّي من أجلها في سبيل الله سبحانه وتعالى.

ولكنّنا لا نعرف الحسين(ع) إلاّ في الساحة الكربلائية حركةً في خطِّ الجهاد، ومأساةً في خطِّ التضحية، أمّا الحسين(ع) الذي كان يملأ عقول الناس بالفكر، ويملأ حياتهم بالموعظة والنصيحة وتأكيد الحقيقة، فهذا ما لا نعرفه، فلو أردنا أن نقوم بعملية إحصائية في كلِّ مجتمعنا الإسلامي، والشيعي خصوصاً، حول ما يعرفه الناس عن الحسين(ع)، فإنَّ الجواب يأتي بأنّنا نعرف الحسين(ع) في جانب المأساة...

لذلك، لا بدَّ لنا من أن نقتدي بالحسين(ع)، وأن نتعلَّم منه، لأنه الإمام المفترض الطاعة، الذي ينفتح على علم رسول الله(ص) وعلم علي(ع)، وقد أعطانا من علمه الكثير، ولكن عاشوراء المأساة غلبت على ذلك.

وفي هذا الموقف، أحاول أن ألتقط من تراث الإمام الحسين(ع) بعض ما يضعنا على خطِّ الاستقامة، ويؤكِّد لنا العدل، ويربطنا بالقيم الأخلاقية والروحية، ويرتفع بنا إلى مواقع عبادة الله سبحانه وتعالى.

 لقد روى بعض الرواة عن الحسين(ع) تقسيمه طبيعة العبادة التي يعبد بها النَّاس ربهم، فقد ورد أنه قال: «إن قوماً عبدوا الله رغبةً ـ للحصول على الجنة أو على نعم الله سبحانه وتعالى ـ فتلك عبادة التجَّار، وإن قوماً عبدوا الله رهبة ًـ خوفاً من ناره ـ فتلك عبادة العبيد ـ فالعبد يخاف من العقاب ـ وإن قوماً عبدوا الله شكراً ـ أحبوا الله سبحانه وشكروه على النعم التي أفاضها عليهم، باعتبار أنّ العبادة تمثّل مظهراً من مظاهر الشكر، كما ورد عن رسول الله(ص)، حين قال له بعض أصحابه: لماذا ترهق نفسك بالعبادة وقد أعطاك الله الجنة؟ فأجابه(ص): «أفلا أكون عبداً شكوراً؟!» ـ فتلك عبادة الأحرار».

الحسين(ع) يؤكّد قيم الخير:
وهكذا، أيُّها الأحبّة، كان(ع) يؤكّد ضرورة أن يقدّم الإنسان المعروف للناس، المعروف الّذي يشمل الإحسان والمواساة للناس في كلِّ أمورهم وفي كل قضاياهم. يروى أنّ رجلاً قال عند الإمام الحسين(ع): «إنَّ المعروف إذا أُسدي إلى غير أهله ضاع»، أي أنّه لا بدّ للإنسان من أن يقدِّم المعروف فقط لمن يستحقّه، لأنّ من لا يستحقّه، يضيع المعروف عنده، فقال الحسين(ع) له: «ليس كذلك، ولكن تكون الصنيعة مثل وابل المطر، تصيب البرّ والفاجر». فعلى الإنسان أن يعمل المعروف من دون أن يهتم لمن يعمله، كما عندما ينـزل الله سبحانه المطر، فإنّه يصيب الناس كلّهم، سواء كانوا أبراراً أو فجّاراً، فكرمه سبحانه يشمل من يطيعه ومن يعصيه، لأنّه الجواد والكريم الذي لا حدَّ لجوده وكرمه.

وهكذا، كان الإمام الحسين(ع) يربي الناس على أن يقدِّموا الخير لكلِّ الناس، بحيث لا ينظرون إلى الشخص أو إلى المجتمع الذي يقدّمون له الخير، فالخير لا بدَّ من أن يكون نابعاً من عمق إيمان الإنسان وإحساسه، لأنّ الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ}(آل عمران/104)،
 أي على الإنسان أن يربي نفسه على الالتزام بالخير، بحيث يكون وجوده في الحياة خيراً للحياة كلّها وللناس كلّهم، ربّما يكون الإنسان الذي تقدِّم له الخير لا يستحقّه، ولكنّك قد تجذبه إلى طاعة الله سبحانه وتعالى في كثيرٍ من الحالات.

ويروى أن رجلاً اغتاب في مجلسه رجلاً آخر، فقال له: «يا هذا، كفّ عن الغيبة ـ لا تعتد على أن تغتاب الناس، ولا تعتد على أن تكون معنيّاً بعيوب الناس في غيبتهم وبالتشهير بهم ـ فإنها إدام كلاب النار»، فهل تريد أن تكون من كلاب أهل النار؟!

من وصايا الإمام الحسين(ع):
ونقرأ في وصيَّته لابنه زين العابدين(ع): «أي بنيّ، إيَّاك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله». ومن الطّبيعيّ أنّ الحسين(ع) كان يقصد أن لا يظلم الإنسان أحداً، لأن الله سبحانه وتعالى يبغض الظلم والظالمين، ويحبُّ العدل والعادلين... ولكن هناك ظلم أقسى من ظلم، فقد تظلم إنساناً فتنكر عليه حقّه وهو يستطيع أن يدافع عن نفسه ويأخذ حقّه بالقوة، ولكن هناك من لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، أو أن يأخذ حقه بسبب ضعفه، فإذا ظلمت هذا الإنسان الضَّعيف، جلس بين يدي الله وقال: يا ربِّ انصرني على فلان، فإذا استعان المظلوم بالله، فإن الله يهيئ كلَّ الظروف لنصرته.

ومن كلمات الإمام الحسين(ع): «إيَّاك وما يُعتذر منه ـ أي لا تفعل أو تقول ما تضطر بعده إلى أن تعتذر منه عند الناس، ـ فإن المؤمن لا يسيء ولا يعتذر ـ لأن المؤمن يتحرّك في الخطِّ المستقيم، فلا يتحرك بفعل، أو يتكلم بكلمة، إلاّ إذا علم أن لله سبحانه فيها رضا، وأنها من الأمور التي يستطيع أن يدافع عنها ـ والمنافق كل يوم يسيء ويعتذر»، فليست عنده قاعدة أخلاقية تضبط له أفعاله وأقواله.

أيضاً مما جاء في تعاليمه(ع): «إنَّ حوائج الناس إليكم من نعم الله عليكم»، فإذا كنت موضعاً لحوائج الناس، سواء كانت حاجات علميةً أو ماليةً أو غير ذلك، وقصدك الناس لقضاء حوائجهم التي تستطيع قضاءها، فلا تعتبر ذلك عبئاً ثقيلاً عليك، بل احمد الله على ذلك، لأنّ ذلك يقرِّبك إلى الله والناس «واعلموا أن المعروف مكسب حمداً ـ فعل الخير يكسبك الحمد عند الناس ـ ومُعقب أجراً. ـ يترك لك الأجر عند الله سبحانه ـ فلو رأيتم المعروف رجلاً ـ لو أراد الله سبحانه أن يجسّد الخير بصورة رجل ـ رأيتموه حسناً جميلاً يسرُّ النّاظرين ـ لأن طبيعة المعروف والعناصر الموجودة فيه وما ينتج عنه، تتمثَّل في جمال الخير والطاعة، فلو أراد الله سبحانه أن يصوِّره، لصوره بصورة الشاب الجميل ـ ولو رأيتم اللؤم رأيتموه سمجاً مشوهاً تنفر منه القلوب وتُغضُّ دونه الأبصار».

وهكذا نقرأ في كلام الحسين(ع) أيضاً: «من حاول أمراً بمعصية الله ـ هناك من الناس من يستعينون على قضاء حوائجهم بمعصية الله، بحيث تعتبر المعصية شرطاً لقضاء الحاجة ـ كان أفوت لما يرجو ـ لا يحصل على الذي يرجوه ـ وأسرع لمجيء ما يحذر». فعلى الإنسان إذا أراد أن يقضي حاجاته ويحلّ مشاكله ويصل إلى مقاصده، أن يوازن بين الهدف والوسيلة، بأن تكون وسيلته في طاعة الله سبحانه لا في معصيته.

وقد ورد في حديثه(ع): «أيُّها النَّاس، من جاد ساد ـ أي من جاد على النَّاس بما أعطاه الله من النعم، فإنّه يسود في المجتمع، لأنّ الناس يحبّونه ـ ومن بخل رذل ـ وأما الإنسان الذي يبخل بعلمه أو بماله أو بجاهه أو بموقعه، فإنّ الناس يرذلونه، أي يقولون عنه إنّه ليس فيه خير وما أشبه ذلك ـ وإن أجود الناس، من أعطى من لا يرجوه ـ الذي لا ينتظر أن يسأله الآخرون ـ وإنّ أعفى النّاس من عفا عن قدرة، وإنَّ أوصل الناس من وصل من قطعه ـ أي عندما يكون لك رحم لا يزورك ولا يتواصل معك، وأنت تصله، فأنت من أوصل الناس ـ والأصول على مغارسها بفروعها تسمو ـ فالفروع بحسب جذورها وبحسب ما تنتج، تسمو حين تكون الجذور قويةً ـ فمن تعجّل لأخيه خيراً وجده إذا قدم عليه غداً ـ{وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ}(البقرة/110) ـ ومن أراد الله تبارك وتعالى بالصنيعة إلى أخيه، كافأه بها في وقت حاجته، وصرف عنه من بلاء الدنيا ما هو أكثر منه ـ في الدنيا قبل الآخرة ـ ومن نفّس كربة مؤمن ـ فإذا جاءك مؤمن مكروب مهموم، لديه أحزان، وحاولت أن تنفّس كربته، وأن تفتح قلبه وتدخل السرور عليه ـ فرّج الله عنه كرب الدنيا والآخرة، ومن أحسن أحسن الله إليه، والله يحبُّ المحسنين».

أيُّها الأحبَّة، من منكم يعرف الحسين(ع) في هذه الكلمات. لذلك أنا أؤكد في موسم عاشوراء، وفي غيره، أن يقدّم العلماء والخطباء الحسين(ع) كإمام يتحرَّك في الدعوة التي دعا إليها رسول الله(ص)، في تنظيم حياة الناس، وفي الارتفاع بمستواهم، وفي تأكيد القيم الأخلاقية والرُّوحية.

لذلك، لا بد من أن نأخذ الحسين(ع) بكلّه، لا أن نأخذه بجانب من جوانب حياته. إنَّ موقف الحسين(ع) في كربلاء انطلق من خلال هذا السموّ في محبّته لله، وهذا السموّ في القيم الروحية والأخلاقية التي تميّز بها، ونحن نعرف أنَّ الحسين(ع) عاش منذ طفولته مع رسول الله(ص) الذي قال فيه: «حسين منّي وأنا من حسين»، ورضع من روحية فاطمة(ع) ومن أخلاقها وإخلاصها لله، وعاش مع أبيه علي(ع) في علمه وصلابته وصبره وشجاعته، وعاش مع أخيه الإمام الحسن(ع) في هيبته وكرمه وجوده وإخلاصه لله سبحانه.

أيُّها الأحبة، تعالوا حتى ندخل الحسين(ع) في عقولنا وفي قلوبنا وفي مشاعرنا وأحاسيسنا، لنعيش إمامته كما نعيش شهادته ومأساته، والسلام على الحسين وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أنصار الحسين، وعلى أخت الحسين، عليك مني سلام الله أبداً ما بقيت وبقي الليل والنهار، ولا جعله الله آخر العهد مني لزيارتك.

الخطبة الثانية
بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف بالقوة والصبر والصلابة والوحدة، لأنّ أعداء الله وأعداء رسوله وأعداء الإسلام، تحرَّكوا من أجل القضاء على الإسلام كله، فقد برز الشرك كلّه والكفر كلّه والاستكبار كلّه إلى التوحيد كلّه والإسلام كلّه والمستضعفين كلّهم، وعلى الإسلام أن يبرز بكلّه، بكلِّ طاقاته، وبكل ما يملك من عناصر القوة، لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الشيطان هي السفلى. فماذا هناك؟ 

زيارة بوش: تأكيد يهودية إسرائيل:
في قلب أزمة المنطقة المعقّدة، تبرز زيارة الرئيس الأمريكي بوش، الذي حاول في استعراضه الإعلاميّ أن يقدّم إسرائيل كدولةٍ يهوديّة، ممهّداً لإيجاد أرضيّة لاستجلاب يهود العالم إلى الدولة المغتصبة، ولرفض عودة اللاجئين إلى أرضهم وبلادهم، ولم يستطع أن يتقدّم بأيّة خطوة في مسألة الدولتين كما وعد سابقاً، أو أيّ حلٍّ لمسألة الاستيطان في القدس والضفّة، مؤذناً ببقاء المستوطنات الكُبرى والجدار الفاصل عندما اكتفى بالحديث عمّا سمّاه المستوطنات العشوائيّة غير القانونيّة.

وقد حاول رئيس وزراء العدوّ ـ في كلمته الترحيبية بالضيف الأمريكي ـ أن يصوّر المشكلة بأنّها مشكلة الصواريخ التي أطلقتها المقاومة، وليست مشكلة الشعب الفلسطيني في احتلال أرضه، وفي سياسة القتل والتدمير والاجتياح التي تمارسها إسرائيل ضدّه بشكل يوميّ بحجّة الدفاع عن النفس ومواجهة الإرهاب؛ هذه الكلمة السحريّة التي تهتزّ لها مشاعر الرئيس بوش، لأنّها تمثّل استراتيجيّته في تفتيت العالم الإسلامي.

وقد استمع بوش مليّاً إلى الرئيس الصهيوني الذي ربط حلّ المسألة الفلسطينيّة بالقضاء على المقاومة، مع إبقاء عمليّات الاجتياح والاغتيال والحصار الاقتصادي الخانق والإذلال المستمرّ للشعب المحاصر على المعابر، الأمر الذي يؤكّد أنّه لا مجال لأيّ تسوية، لأنّ المجاهدين لن يُلقوا بأسلحتهم، وسيستمرّون في مقاومتهم للاحتلال الذي يفرض نفسه على أرضهم وشعبهم وحاضرهم ومستقبلهم.

وقد استغلّت إسرائيل هذا الغزل بينها وبين الرئيس بوش، فاستمرّت في قصف قطاع غزّة واجتياح الضفّة، في رسالة إلى العرب، أنّ الأمر كلّه بيد الإسرائيليّين الذين يملكون أكثر موازين القوى، وأنّه ليس هناك من سلامٍ يُمكن أن يتحرّك مع الفلسطينيّين إلا من خلال الإرادة الإسرائيليّة وشروطها التعجيزيّة، وهذا ما ينبغي للجميع أن يفهموه.

أمريكا: تهويل ضد إيران وإبادة فلسطينية:
وعلى خطّ آخر، برز التهويل الإسرائيلي واضحاً في المسألة الإيرانيّة، كنوع من التحريض للرئيس الأمريكي وإدارته المحافظة، للتلويح مجدّداً بالحرب ضدّ إيران. هذا، إلى جانب التأكيد الأمريكي المستمرّ على خنق إيران بالحصار الاقتصادي والعزلة السياسية التي يسعى الرّئيس الأمريكيّ إلى تنفيذها بالتعاون مع حلفائه الأوروبّيين وأصدقائه العرب الذين يُراد لهم أن يخضعوا لحالة من الإثارة التهويليّة في اعتبار إيران خطراً على أمنهم وأمن العالم بأسره، ممّا ينعكس سلباً على المنطقة، ولا سيّما دول الخليج التي مدّت لها إيران يد الصداقة والتعاون والاحترام المتبادل للمصالح المشتركة.

ونحن نعتقد أنّ الرئيس الأمريكي سيسعى جهده لعرقلة الانفتاح الدبلوماسي بين مصر وإيران، إلى جانب محاولاته الرامية إلى إحداث فتنة في الداخل الفلسطيني، مع تقديمه الوعود المعسولة الغامضة للسلطة الفلسطينيّة التي اعتادت عليها الإدارة الأمريكية في علاقتها بالفلسطينيّين.

إنّنا نعتقد أنّ هذه الزيارة تسير في خطّين: الأوّل يتمثّل بخلق مناخ تهويلي ضدّ إيران، بالتوازي مع التخطيط الأمريكي ـ الإسرائيلي المتواصل لاستهدافها ومحاصرتها. والثاني يتركّز على إبقاء المسألة الفلسطينية في القبضة الإسرائيليّة لتظلّ دوّامة الاحتلال في دائرة الحلقة المفرغة التي تجعل الشعب الفلسطيني يواجه عمليّة الإبادة الجماعيّة التي يصفّق لها العالم المستكبر.

إنّ على الشعب الفلسطينيّ كلّه أن يأخذ بأسباب الوعي، في دراسته للنتائج السلبيّة للمواقف الدوليّة السلبيّة الحاضنة لإسرائيل، والمؤيّدة لما تمارسه هذه الدولة الغاصبة من الظلم والقهر والتشريد والقتل، وأن يعرف أنّ شرعة حقوق الإنسان الدوليّة تقف عند حدود الدولة العبريّة، فلا تتجاوزها إلى كلّ الممارسات الوحشيّة للعدوّ ضدّ الشعب الفلسطيني.

الحلول العربية بصياغات ضبابية:
أمّا لبنان، فقد عاش شعبه الأجواء الاحتفاليّة التي انفتحت على أزمته الداخليّة من خلال اجتماع وزراء الخارجيّة العرب، وإصدار القرارات الإجماعيّة التي صيغت بطريقة ضبابيّة مغلقة، لا تملك أيّ وضوح في المفردات التي تمثّلها أوضاع الأزمة منذ أكثر من عام، وسوف يعود الجدل في الأرقام والمواقف من هذا الفريق أو ذاك، في استعادة للمشاكل العالقة المنطلقة من فقدان الثقة، ومن الخلفيّات الإقليمية والدوليّة التي تتحرّك في الساحة اللبنانيّة من خلال اللبنانيّين أنفسهم، لأنّ الأزمة لم تعد لبنانيّةً كما بات واضحاً للجميع.

ويبقى الشعب اللبنانيّ حائراً أمام المتاهات السياسية، في التصريحات الاستهلاكيّة التي يفطر عليها، ويتناول منها غداءه وعشاءه... وتبقى صرخات الجوع تهزّ كلّ كيانه.

إنّنا لا نريد أن نقطع على اللبنانيّين أحلامهم الورديّة وتفاؤلهم بما يأتي في قادم الأيّام، ولكنّنا نريد لهم أن يُنعشوا ذاكرتهم من خلال ما عاشوه في التجارب السابقة، وفي حركة الوساطات الدوليّة والعربيّة، ليتواضعوا في أحلامهم، وليرصدوا المستقبل بكثير من الحذر والواقعيّة.

إنّ مشكلة لبنان أن شبابه فقدوا الأمل في فرصة الحصول على العيش الكريم، وأنّ المواقع الدينية تتبع المواقع السياسية في مواعظها وفي التزاماتها بهذا الفريق أو ذاك، من أجل الإمعان في تخدير الناس في جانب، وإدخالهم في المتاهات في جانب آخر.

وتبقى المواقع الدوليّة تتحرّك في الساحة من أجل الأزمة الداخليّة المربوطة بأزمة المنطقة التي سوف تمتدّ إلى المدى الذي يحقّق فيه المستكبرون، ولاسيّما الإدارة الأمريكية، مصالحهم الاستراتيجية على حساب مصالح لبنان التي لا يفكّر فيها غالب النادي السياسي اللبناني، وكلّ لبنان وأنتم بخير نتمنّاه، وإن كان الشرّ هو الذي نعيش فيه.

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته: 

الخطبة الأولى
الحسين(ع) في شخصيَّته العقلانيَّة:

في هذه الأيَّام، نعيش مع الإمام الحسين(ع) في ذكرى عاشوراء، التي تمتدُّ إلى كلِّ أيام السنة، لأنَّ الحسين(ع) ليس شخصيةً منفصلةً عن عقولنا، فقد دخل(ع) في العقل من خلال شخصيته العقلانية، ودخل في الشعور والإحساس من خلال كلِّ مشاعرنا وأحاسيسنا المليئة بالحبِّ له، فنحن نحب الحسين(ع) بكلِّ أحاسيسنا، لأنّنا لا نستطيع إلاّ أن نحبَّه كما أحبه الله سبحانه وتعالى، وكما أحبَّه رسول الله(ص)، وكما أحبّ الأمّة الّتي انطلق معها ليرعاها ولينمّيها وليقوّيها وليضحِّي من أجلها في سبيل الله سبحانه وتعالى.

ولكنّنا لا نعرف الحسين(ع) إلاّ في الساحة الكربلائية حركةً في خطِّ الجهاد، ومأساةً في خطِّ التضحية، أمّا الحسين(ع) الذي كان يملأ عقول الناس بالفكر، ويملأ حياتهم بالموعظة والنصيحة وتأكيد الحقيقة، فهذا ما لا نعرفه، فلو أردنا أن نقوم بعملية إحصائية في كلِّ مجتمعنا الإسلامي، والشيعي خصوصاً، حول ما يعرفه الناس عن الحسين(ع)، فإنَّ الجواب يأتي بأنّنا نعرف الحسين(ع) في جانب المأساة...

لذلك، لا بدَّ لنا من أن نقتدي بالحسين(ع)، وأن نتعلَّم منه، لأنه الإمام المفترض الطاعة، الذي ينفتح على علم رسول الله(ص) وعلم علي(ع)، وقد أعطانا من علمه الكثير، ولكن عاشوراء المأساة غلبت على ذلك.

وفي هذا الموقف، أحاول أن ألتقط من تراث الإمام الحسين(ع) بعض ما يضعنا على خطِّ الاستقامة، ويؤكِّد لنا العدل، ويربطنا بالقيم الأخلاقية والروحية، ويرتفع بنا إلى مواقع عبادة الله سبحانه وتعالى.

 لقد روى بعض الرواة عن الحسين(ع) تقسيمه طبيعة العبادة التي يعبد بها النَّاس ربهم، فقد ورد أنه قال: «إن قوماً عبدوا الله رغبةً ـ للحصول على الجنة أو على نعم الله سبحانه وتعالى ـ فتلك عبادة التجَّار، وإن قوماً عبدوا الله رهبة ًـ خوفاً من ناره ـ فتلك عبادة العبيد ـ فالعبد يخاف من العقاب ـ وإن قوماً عبدوا الله شكراً ـ أحبوا الله سبحانه وشكروه على النعم التي أفاضها عليهم، باعتبار أنّ العبادة تمثّل مظهراً من مظاهر الشكر، كما ورد عن رسول الله(ص)، حين قال له بعض أصحابه: لماذا ترهق نفسك بالعبادة وقد أعطاك الله الجنة؟ فأجابه(ص): «أفلا أكون عبداً شكوراً؟!» ـ فتلك عبادة الأحرار».

الحسين(ع) يؤكّد قيم الخير:
وهكذا، أيُّها الأحبّة، كان(ع) يؤكّد ضرورة أن يقدّم الإنسان المعروف للناس، المعروف الّذي يشمل الإحسان والمواساة للناس في كلِّ أمورهم وفي كل قضاياهم. يروى أنّ رجلاً قال عند الإمام الحسين(ع): «إنَّ المعروف إذا أُسدي إلى غير أهله ضاع»، أي أنّه لا بدّ للإنسان من أن يقدِّم المعروف فقط لمن يستحقّه، لأنّ من لا يستحقّه، يضيع المعروف عنده، فقال الحسين(ع) له: «ليس كذلك، ولكن تكون الصنيعة مثل وابل المطر، تصيب البرّ والفاجر». فعلى الإنسان أن يعمل المعروف من دون أن يهتم لمن يعمله، كما عندما ينـزل الله سبحانه المطر، فإنّه يصيب الناس كلّهم، سواء كانوا أبراراً أو فجّاراً، فكرمه سبحانه يشمل من يطيعه ومن يعصيه، لأنّه الجواد والكريم الذي لا حدَّ لجوده وكرمه.

وهكذا، كان الإمام الحسين(ع) يربي الناس على أن يقدِّموا الخير لكلِّ الناس، بحيث لا ينظرون إلى الشخص أو إلى المجتمع الذي يقدّمون له الخير، فالخير لا بدَّ من أن يكون نابعاً من عمق إيمان الإنسان وإحساسه، لأنّ الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ}(آل عمران/104)،
 أي على الإنسان أن يربي نفسه على الالتزام بالخير، بحيث يكون وجوده في الحياة خيراً للحياة كلّها وللناس كلّهم، ربّما يكون الإنسان الذي تقدِّم له الخير لا يستحقّه، ولكنّك قد تجذبه إلى طاعة الله سبحانه وتعالى في كثيرٍ من الحالات.

ويروى أن رجلاً اغتاب في مجلسه رجلاً آخر، فقال له: «يا هذا، كفّ عن الغيبة ـ لا تعتد على أن تغتاب الناس، ولا تعتد على أن تكون معنيّاً بعيوب الناس في غيبتهم وبالتشهير بهم ـ فإنها إدام كلاب النار»، فهل تريد أن تكون من كلاب أهل النار؟!

من وصايا الإمام الحسين(ع):
ونقرأ في وصيَّته لابنه زين العابدين(ع): «أي بنيّ، إيَّاك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله». ومن الطّبيعيّ أنّ الحسين(ع) كان يقصد أن لا يظلم الإنسان أحداً، لأن الله سبحانه وتعالى يبغض الظلم والظالمين، ويحبُّ العدل والعادلين... ولكن هناك ظلم أقسى من ظلم، فقد تظلم إنساناً فتنكر عليه حقّه وهو يستطيع أن يدافع عن نفسه ويأخذ حقّه بالقوة، ولكن هناك من لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، أو أن يأخذ حقه بسبب ضعفه، فإذا ظلمت هذا الإنسان الضَّعيف، جلس بين يدي الله وقال: يا ربِّ انصرني على فلان، فإذا استعان المظلوم بالله، فإن الله يهيئ كلَّ الظروف لنصرته.

ومن كلمات الإمام الحسين(ع): «إيَّاك وما يُعتذر منه ـ أي لا تفعل أو تقول ما تضطر بعده إلى أن تعتذر منه عند الناس، ـ فإن المؤمن لا يسيء ولا يعتذر ـ لأن المؤمن يتحرّك في الخطِّ المستقيم، فلا يتحرك بفعل، أو يتكلم بكلمة، إلاّ إذا علم أن لله سبحانه فيها رضا، وأنها من الأمور التي يستطيع أن يدافع عنها ـ والمنافق كل يوم يسيء ويعتذر»، فليست عنده قاعدة أخلاقية تضبط له أفعاله وأقواله.

أيضاً مما جاء في تعاليمه(ع): «إنَّ حوائج الناس إليكم من نعم الله عليكم»، فإذا كنت موضعاً لحوائج الناس، سواء كانت حاجات علميةً أو ماليةً أو غير ذلك، وقصدك الناس لقضاء حوائجهم التي تستطيع قضاءها، فلا تعتبر ذلك عبئاً ثقيلاً عليك، بل احمد الله على ذلك، لأنّ ذلك يقرِّبك إلى الله والناس «واعلموا أن المعروف مكسب حمداً ـ فعل الخير يكسبك الحمد عند الناس ـ ومُعقب أجراً. ـ يترك لك الأجر عند الله سبحانه ـ فلو رأيتم المعروف رجلاً ـ لو أراد الله سبحانه أن يجسّد الخير بصورة رجل ـ رأيتموه حسناً جميلاً يسرُّ النّاظرين ـ لأن طبيعة المعروف والعناصر الموجودة فيه وما ينتج عنه، تتمثَّل في جمال الخير والطاعة، فلو أراد الله سبحانه أن يصوِّره، لصوره بصورة الشاب الجميل ـ ولو رأيتم اللؤم رأيتموه سمجاً مشوهاً تنفر منه القلوب وتُغضُّ دونه الأبصار».

وهكذا نقرأ في كلام الحسين(ع) أيضاً: «من حاول أمراً بمعصية الله ـ هناك من الناس من يستعينون على قضاء حوائجهم بمعصية الله، بحيث تعتبر المعصية شرطاً لقضاء الحاجة ـ كان أفوت لما يرجو ـ لا يحصل على الذي يرجوه ـ وأسرع لمجيء ما يحذر». فعلى الإنسان إذا أراد أن يقضي حاجاته ويحلّ مشاكله ويصل إلى مقاصده، أن يوازن بين الهدف والوسيلة، بأن تكون وسيلته في طاعة الله سبحانه لا في معصيته.

وقد ورد في حديثه(ع): «أيُّها النَّاس، من جاد ساد ـ أي من جاد على النَّاس بما أعطاه الله من النعم، فإنّه يسود في المجتمع، لأنّ الناس يحبّونه ـ ومن بخل رذل ـ وأما الإنسان الذي يبخل بعلمه أو بماله أو بجاهه أو بموقعه، فإنّ الناس يرذلونه، أي يقولون عنه إنّه ليس فيه خير وما أشبه ذلك ـ وإن أجود الناس، من أعطى من لا يرجوه ـ الذي لا ينتظر أن يسأله الآخرون ـ وإنّ أعفى النّاس من عفا عن قدرة، وإنَّ أوصل الناس من وصل من قطعه ـ أي عندما يكون لك رحم لا يزورك ولا يتواصل معك، وأنت تصله، فأنت من أوصل الناس ـ والأصول على مغارسها بفروعها تسمو ـ فالفروع بحسب جذورها وبحسب ما تنتج، تسمو حين تكون الجذور قويةً ـ فمن تعجّل لأخيه خيراً وجده إذا قدم عليه غداً ـ{وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ}(البقرة/110) ـ ومن أراد الله تبارك وتعالى بالصنيعة إلى أخيه، كافأه بها في وقت حاجته، وصرف عنه من بلاء الدنيا ما هو أكثر منه ـ في الدنيا قبل الآخرة ـ ومن نفّس كربة مؤمن ـ فإذا جاءك مؤمن مكروب مهموم، لديه أحزان، وحاولت أن تنفّس كربته، وأن تفتح قلبه وتدخل السرور عليه ـ فرّج الله عنه كرب الدنيا والآخرة، ومن أحسن أحسن الله إليه، والله يحبُّ المحسنين».

أيُّها الأحبَّة، من منكم يعرف الحسين(ع) في هذه الكلمات. لذلك أنا أؤكد في موسم عاشوراء، وفي غيره، أن يقدّم العلماء والخطباء الحسين(ع) كإمام يتحرَّك في الدعوة التي دعا إليها رسول الله(ص)، في تنظيم حياة الناس، وفي الارتفاع بمستواهم، وفي تأكيد القيم الأخلاقية والرُّوحية.

لذلك، لا بد من أن نأخذ الحسين(ع) بكلّه، لا أن نأخذه بجانب من جوانب حياته. إنَّ موقف الحسين(ع) في كربلاء انطلق من خلال هذا السموّ في محبّته لله، وهذا السموّ في القيم الروحية والأخلاقية التي تميّز بها، ونحن نعرف أنَّ الحسين(ع) عاش منذ طفولته مع رسول الله(ص) الذي قال فيه: «حسين منّي وأنا من حسين»، ورضع من روحية فاطمة(ع) ومن أخلاقها وإخلاصها لله، وعاش مع أبيه علي(ع) في علمه وصلابته وصبره وشجاعته، وعاش مع أخيه الإمام الحسن(ع) في هيبته وكرمه وجوده وإخلاصه لله سبحانه.

أيُّها الأحبة، تعالوا حتى ندخل الحسين(ع) في عقولنا وفي قلوبنا وفي مشاعرنا وأحاسيسنا، لنعيش إمامته كما نعيش شهادته ومأساته، والسلام على الحسين وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أنصار الحسين، وعلى أخت الحسين، عليك مني سلام الله أبداً ما بقيت وبقي الليل والنهار، ولا جعله الله آخر العهد مني لزيارتك.

الخطبة الثانية
بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف بالقوة والصبر والصلابة والوحدة، لأنّ أعداء الله وأعداء رسوله وأعداء الإسلام، تحرَّكوا من أجل القضاء على الإسلام كله، فقد برز الشرك كلّه والكفر كلّه والاستكبار كلّه إلى التوحيد كلّه والإسلام كلّه والمستضعفين كلّهم، وعلى الإسلام أن يبرز بكلّه، بكلِّ طاقاته، وبكل ما يملك من عناصر القوة، لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الشيطان هي السفلى. فماذا هناك؟ 

زيارة بوش: تأكيد يهودية إسرائيل:
في قلب أزمة المنطقة المعقّدة، تبرز زيارة الرئيس الأمريكي بوش، الذي حاول في استعراضه الإعلاميّ أن يقدّم إسرائيل كدولةٍ يهوديّة، ممهّداً لإيجاد أرضيّة لاستجلاب يهود العالم إلى الدولة المغتصبة، ولرفض عودة اللاجئين إلى أرضهم وبلادهم، ولم يستطع أن يتقدّم بأيّة خطوة في مسألة الدولتين كما وعد سابقاً، أو أيّ حلٍّ لمسألة الاستيطان في القدس والضفّة، مؤذناً ببقاء المستوطنات الكُبرى والجدار الفاصل عندما اكتفى بالحديث عمّا سمّاه المستوطنات العشوائيّة غير القانونيّة.

وقد حاول رئيس وزراء العدوّ ـ في كلمته الترحيبية بالضيف الأمريكي ـ أن يصوّر المشكلة بأنّها مشكلة الصواريخ التي أطلقتها المقاومة، وليست مشكلة الشعب الفلسطيني في احتلال أرضه، وفي سياسة القتل والتدمير والاجتياح التي تمارسها إسرائيل ضدّه بشكل يوميّ بحجّة الدفاع عن النفس ومواجهة الإرهاب؛ هذه الكلمة السحريّة التي تهتزّ لها مشاعر الرئيس بوش، لأنّها تمثّل استراتيجيّته في تفتيت العالم الإسلامي.

وقد استمع بوش مليّاً إلى الرئيس الصهيوني الذي ربط حلّ المسألة الفلسطينيّة بالقضاء على المقاومة، مع إبقاء عمليّات الاجتياح والاغتيال والحصار الاقتصادي الخانق والإذلال المستمرّ للشعب المحاصر على المعابر، الأمر الذي يؤكّد أنّه لا مجال لأيّ تسوية، لأنّ المجاهدين لن يُلقوا بأسلحتهم، وسيستمرّون في مقاومتهم للاحتلال الذي يفرض نفسه على أرضهم وشعبهم وحاضرهم ومستقبلهم.

وقد استغلّت إسرائيل هذا الغزل بينها وبين الرئيس بوش، فاستمرّت في قصف قطاع غزّة واجتياح الضفّة، في رسالة إلى العرب، أنّ الأمر كلّه بيد الإسرائيليّين الذين يملكون أكثر موازين القوى، وأنّه ليس هناك من سلامٍ يُمكن أن يتحرّك مع الفلسطينيّين إلا من خلال الإرادة الإسرائيليّة وشروطها التعجيزيّة، وهذا ما ينبغي للجميع أن يفهموه.

أمريكا: تهويل ضد إيران وإبادة فلسطينية:
وعلى خطّ آخر، برز التهويل الإسرائيلي واضحاً في المسألة الإيرانيّة، كنوع من التحريض للرئيس الأمريكي وإدارته المحافظة، للتلويح مجدّداً بالحرب ضدّ إيران. هذا، إلى جانب التأكيد الأمريكي المستمرّ على خنق إيران بالحصار الاقتصادي والعزلة السياسية التي يسعى الرّئيس الأمريكيّ إلى تنفيذها بالتعاون مع حلفائه الأوروبّيين وأصدقائه العرب الذين يُراد لهم أن يخضعوا لحالة من الإثارة التهويليّة في اعتبار إيران خطراً على أمنهم وأمن العالم بأسره، ممّا ينعكس سلباً على المنطقة، ولا سيّما دول الخليج التي مدّت لها إيران يد الصداقة والتعاون والاحترام المتبادل للمصالح المشتركة.

ونحن نعتقد أنّ الرئيس الأمريكي سيسعى جهده لعرقلة الانفتاح الدبلوماسي بين مصر وإيران، إلى جانب محاولاته الرامية إلى إحداث فتنة في الداخل الفلسطيني، مع تقديمه الوعود المعسولة الغامضة للسلطة الفلسطينيّة التي اعتادت عليها الإدارة الأمريكية في علاقتها بالفلسطينيّين.

إنّنا نعتقد أنّ هذه الزيارة تسير في خطّين: الأوّل يتمثّل بخلق مناخ تهويلي ضدّ إيران، بالتوازي مع التخطيط الأمريكي ـ الإسرائيلي المتواصل لاستهدافها ومحاصرتها. والثاني يتركّز على إبقاء المسألة الفلسطينية في القبضة الإسرائيليّة لتظلّ دوّامة الاحتلال في دائرة الحلقة المفرغة التي تجعل الشعب الفلسطيني يواجه عمليّة الإبادة الجماعيّة التي يصفّق لها العالم المستكبر.

إنّ على الشعب الفلسطينيّ كلّه أن يأخذ بأسباب الوعي، في دراسته للنتائج السلبيّة للمواقف الدوليّة السلبيّة الحاضنة لإسرائيل، والمؤيّدة لما تمارسه هذه الدولة الغاصبة من الظلم والقهر والتشريد والقتل، وأن يعرف أنّ شرعة حقوق الإنسان الدوليّة تقف عند حدود الدولة العبريّة، فلا تتجاوزها إلى كلّ الممارسات الوحشيّة للعدوّ ضدّ الشعب الفلسطيني.

الحلول العربية بصياغات ضبابية:
أمّا لبنان، فقد عاش شعبه الأجواء الاحتفاليّة التي انفتحت على أزمته الداخليّة من خلال اجتماع وزراء الخارجيّة العرب، وإصدار القرارات الإجماعيّة التي صيغت بطريقة ضبابيّة مغلقة، لا تملك أيّ وضوح في المفردات التي تمثّلها أوضاع الأزمة منذ أكثر من عام، وسوف يعود الجدل في الأرقام والمواقف من هذا الفريق أو ذاك، في استعادة للمشاكل العالقة المنطلقة من فقدان الثقة، ومن الخلفيّات الإقليمية والدوليّة التي تتحرّك في الساحة اللبنانيّة من خلال اللبنانيّين أنفسهم، لأنّ الأزمة لم تعد لبنانيّةً كما بات واضحاً للجميع.

ويبقى الشعب اللبنانيّ حائراً أمام المتاهات السياسية، في التصريحات الاستهلاكيّة التي يفطر عليها، ويتناول منها غداءه وعشاءه... وتبقى صرخات الجوع تهزّ كلّ كيانه.

إنّنا لا نريد أن نقطع على اللبنانيّين أحلامهم الورديّة وتفاؤلهم بما يأتي في قادم الأيّام، ولكنّنا نريد لهم أن يُنعشوا ذاكرتهم من خلال ما عاشوه في التجارب السابقة، وفي حركة الوساطات الدوليّة والعربيّة، ليتواضعوا في أحلامهم، وليرصدوا المستقبل بكثير من الحذر والواقعيّة.

إنّ مشكلة لبنان أن شبابه فقدوا الأمل في فرصة الحصول على العيش الكريم، وأنّ المواقع الدينية تتبع المواقع السياسية في مواعظها وفي التزاماتها بهذا الفريق أو ذاك، من أجل الإمعان في تخدير الناس في جانب، وإدخالهم في المتاهات في جانب آخر.

وتبقى المواقع الدوليّة تتحرّك في الساحة من أجل الأزمة الداخليّة المربوطة بأزمة المنطقة التي سوف تمتدّ إلى المدى الذي يحقّق فيه المستكبرون، ولاسيّما الإدارة الأمريكية، مصالحهم الاستراتيجية على حساب مصالح لبنان التي لا يفكّر فيها غالب النادي السياسي اللبناني، وكلّ لبنان وأنتم بخير نتمنّاه، وإن كان الشرّ هو الذي نعيش فيه.

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير