في ذكرى وفاة الإمام الصّادق(ع): قمّة كان في العلم والحوار والتّقوى والوحدة

في ذكرى وفاة الإمام الصّادق(ع): قمّة كان في العلم والحوار والتّقوى والوحدة

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

في ذكرى وفاة الإمام الصّادق(ع):

قمّة كان في العلم والحوار والتّقوى والوحدة

الحرّيّة عين العبوديّة لله

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(الأحزاب:33).

من أهل البيت(ع)، الإمام جعفر بن محمَّد الصادق(ع)، الذي يصادف هذا اليوم، الخامس والعشرون من شهر شوَّال، ذكرى وفاته؛ هذا الإمام الذي عاش حياته ليملأ عقول المسلمين وغير المسلمين علماً يستطيعون من خلاله أن يفهموا الإسلام في بعده الحضاري، وفي نظامه الأخلاقي، وفي خطوطه الاجتماعية، وفي علاقاته الإنسانية، وفي تشريعاته التي تنطلق من خلال ما يصلحهم في ما أمر الله به، وفي ما يفسدهم في ما نهى الله عنه. كما أنّه(ع) أكَّد للنَّاس كلِّهم، ولا سيّما للمسلمين، أن يأخذوا بأسباب الحرية التي تنطلق من داخل الإنسان، من إرادته القوية الواعية التي يملك معها أن يقول "نعم" إذا أُلقي إليه اقتراحٌ يتناسب مع الحق، وأن يقول "لا" إذا كان الاقتراح يتناسب مع الباطل، لأنَّ الحرية في الإسلام تتمثَّل بأن يكون الإنسان حرّاً أمام العالم كلّه وعبداً لله وحده، فلا عبودية إلاّ لله، حتى إنّنا في التشهّد أثناء الصلاة، عندما نذكر رسول الله(ص)، فإننا نقول: "وأشهد أن محمداً عبده ورسوله"، وقد جاء في حديث الإمام عليّ(ع): «كفى بي عزّاً أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي ربّاً».

القوّة مصدر العزّة

وكان الإمام الصَّادق(ع) يريد للمسلمين أن يكونوا الأعزّاء في كلِّ مواقعهم أمام الآخرين، فلا يذلّ المسلم نفسه لأيّ إنسان آخر. وهذا ما جاء في تفسيره(ع) لقوله تعالى: {وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}(المنافقون:8)، قال(ع): «إن الله فوّض إلى المؤمن أموره كلَّها ـ فلك أن تتصرَّف في كلِّ أمورك بما تحبّ فيما أحلّه الله لك ـ ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً»، لكنّك لست حراً في أن تذلّ نفسك أمام أيّ إنسان أو دولة أو حزبٍ أو جماعة، لأنّ عزَّة المؤمن هي من عزَّة الله وعزَّة رسوله، ولأنّ عزّة المؤمن تمتدُّ إلى عزّة المجتمع. كما أن إذلال نفسه يمتد إلى إذلال المجتمع، ولم يتحدَّث الله تعالى عن الذلّ إلاّ بالنسبة إلى الوالدين، لا الذل الذي يسقط إنسانية الإنسان، ولكن ذلّ الرحمة، بأن يتواضع لهما ويذلّ نفسه لهما رحمةً بهما وإحساناً إليهما.

وكان الإمام الصَّادق(ع) يؤكِّد للمسلمين جميعاً أن يكونوا الأحرار والأعزَّة والأقوياء، وأن يأخذوا، كما أراد لهم الله بأسباب القوة، لأنّ القوة هي التي تؤكِّد العزّة، كما جاء في قوله تعالى: {يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للهِ جَمِيعًا}(النساء:139).

الإمام الصَّادق(ع) وثقافة الحوار

وكان الإمام الصَّادق(ع) الإنسان المنفتح على كلِّ الثقافات والانتماءات، وقد تحدَّثت كتب السَّيرة، أنّه كان يجلس في بيت الله الحرام، فيجتمع إليه الزنادقة الذين لا يؤمنون بالله ولا برسوله ولا باليوم الآخر، وكانوا يطرحون عليه أفكارهم وشبهاتهم، وكان صدره يتسع لكل ذلك، ولا يتعقّد من كلماتهم السلبية التي يتجرأون بها على تشريعات الله. ولذلك كان(ع) إمام الحوار، فكان يحاور الزنادقة، ويحاور الذين ينكرون الإمامة، وكان يراقب الحركة الثقافية في الجسم الإسلاميّ، لمواجهة أيِّ فكرٍ يبتعد عن الإسلام، بالحوار والجدال بالَّتي هي أحسن.

الصّادق(ع) مدرسة في العلم والوحدة

وكانت مدرسته(ع) هي المدرسة التي امتدَّت في حياة كلِّ المسلمين، سواء ممن يلتزمون إمامته أو ممّن لا يلتزمونها، حتى عدّ من رواة حديثه والذين تتلمذوا عليه وأخذوا من علمه، أربعة آلاف شخص، وكان من بين تلامذته إمام المذهب المالكي مالك بن أنس، وإمام المذهب الحنفي أبو حنيفة النعمان الذي كان يقول: «لولا السنتان لهلك النعمان». وكان المنصور العباسي معقّداً من هذا الامتداد الروحيّ والثقافيّ والإنسانيّ للإمام الصادق(ع) عند المسلمين، فطلب من أبي حنيفة أن يحضّر للإمام الصَّادق مسائل شديدة يطرحها عليه حتّى يحرجه، فحضّر له أربعين ألف مسألة أجاب عنها كلّها مع تبيان اختلاف الآراء حولها. وروى أحد المؤرِّخين قائلاَ: "دخلت إلى مسجد الكوفة، فرأيت تسعمائة شيخ، كلٌ يقول: حدّثني جعفر بن محمد".

وكان الإمام الصَّادق(ع) يفتح بيته لكلِّ النَّاس الّذين يقصدونه بأسئلتهم، وكان يجيب الجاهل والعالم، كما كان يؤكِّد دائماً ضرورة أن يفتح العلماء بيوتهم وعقولهم للناس كافةً، لأنَّ العلم هو أمانة الله عند العالِم، وعليه أن يؤدِّي الأمانة إلى أهلها، وقد روى عن رسول الله(ص) أنه قال: «إذا ظهرت البدع في أمّتي، فيُظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله».

وقد عمل الإمام الصادق(ع) على تأكيد الوحدة الإسلامية في المجتمع، فكان يأمر شيعته بأن يصلّوا جماعة المسلمين، وأن يعودوا مرضاهم، وأن يشيّعوا جنائزهم، حتى يقول الناس: "رحم الله جعفر بن محمد فلقد أدّب أصحابه"، وكان ينكر على من يتحدَّث عن الصحابة بشكلٍ سلبيّ، وكان يقول: «ما أيسر ما رضي الناس به منكم، كفّوا ألسنتكم عنهم». وكان(ع) يوصي شيعته بالوحدة والتعارف والتعاون، وأن يعود الغنيُّ الفقير، وأن يعطف القويُّ على الضَّعيف.

لقد كان الإمام الصَّادق(ع) قمةً في العلم والتقوى والاستقامة والفكر الحضاري، ويروى أنّه هو من أسس لعلم الكيمياء الذي أخذه عنه تلميذه جابر بن حيان.

لذلك، علينا أن ندرس كلَّ تراث الإمام الصادق(ع) الذي تحدَّث عن كلِّ ما يفيد الناس ويرفع مستواهم، فهكذا تكون الموالاة، لأنّ الموالاة لأئمَّة أهل البيت(ع) لا تكون بأن نتذكّرهم على أساس استحضار مآسيهم فحسب، بل أن نعمل على استحضار علومهم، وقد جاء عنه(ع): «أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا»، قيل: كيف نحيي أمركم؟ قال(ع): «يتعلّم علومنا ويعلّمها النّاس، فإنّ النّاس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا»، أن تنقلوا تراثنا وعلومنا وأساليبنا الحضارية الإنسانية للنَّاس كلِّهم، وبذلك يمكن للتشيع أن ينطلق ليكون حركةً حضاريةً منفتحةً على الإنسان والعالم كلّه، حركةً تؤكّد الحرية والعزَّة والعلم والمعرفة والقوَّة.

إنّنا نعيش في مرحلةٍ يواجَهُ المسلمون بالحروب الثقافية والإعلامية، وعلينا أن نعمل لنقدّم تراث أهل البيت(ع) الحضاريّ، ليعرف العالم أصالة الإسلام من خلال هذا التّراث، انطلاقاً من كتاب الله، وسنّة نبيه، وكلمات عليّ في نهج البلاغة، وكلمات الأئمة من أهل البيت(ع).

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، فماذا هناك؟

إسرائيل: إحياء مبادرة السّلام العربيّة

في جديد الكيان الصهيوني، إعادة إحياء ما سمّي مبادرة السلام العربية التي قال عنها شارون يوماً إنّها لا تساوي الحبر الذي كتب فيها. ويتحدث المسؤولون الصهاينة في هذه الأيام عن "مصلحة مشتركة" مع دول محور الاعتدال العربي، تدفعهم إلى طرح التفاوض مع دول المنطقة ككل، وليس على المسار السوري والفلسطيني فحسب، وتمكّنهم من مواجهة "إيران" و"حماس" و"حزب الله"، تحت عنوان الصَّفقة الشاملة مع عناصر عربية معتدلة، كما يتحدّث وزير حرب العدوّ.

ومن الواضح أنَّ العدوّ الذي خسر الكثير من رصيده، وانكسرت هيبته أمام المقاومة التي هزمته في حرب تمّوز الفائتة، والذي لا يزال يستشعر القلق والضَّعف أمام استمرار السِّجال الأمني مع فصائل الانتفاضة، بدأ يفكر في الالتفاف على الوضع القائم، والعودة إلى خيار إشغال العرب بالعرب وبالمسلمين، وخصوصاً أنَّ المتغيرات الدولية لا يبدو أنها تسير في مصلحته، ولذلك فهو يحضّر الأجواء لمراوغات جديدةٍ قد تستهوي العديد من العرب الذين يرفضون محاورة أشقّائهم وإخوانهم، ولكنَّهم يجدون متعةً في الجلوس مع الإسرائيليين على طاولةٍ واحدةٍ، وقد لا يمانعون في سلوك طريق الوحدة العربية إذا كان من طريق مصافحة الصهاينة.

وإلى جانب عروض السَّلام الملغومة، تقدم إسرائيل عروض العنف الدامي في غزوات المستوطنين على المزارعين الفلسطينيين الذين يقطفون الزيتون، حيث تحول موسم الزيتون إلى موسم مصادمات مع هؤلاء المعتدين الذين يشتبك جيش العدوّ معهم شكلياً، بعدما يوفر لهم الغطاء الكامل لعدوانهم، ثم يعتقل المزارعين الفلسطينيين ويفسح في المجال ـ في موقع آخر ـ لهؤلاء المستوطنين المتوحشين لاقتحام المسجد الأقصى، وارتكاب الأعمال الفاحشة فيه، وشرب الخمر في باحاته، في استفزازٍ خبيثٍ لمشاعر المسلمين، إلى جانب بعض الجرائم التي ترتكب في حقِّ العرب المقدسيين، حيث يتم العثور على جثث عربية مذبوحة، وحيث يتوالى الحديث عن هجماتٍ جديدة يتحضّر لها المستوطنون الصهاينة ضد الفلسطينيين في عكَّا، مع توالي عمليات الحفر تحت المسجد الأقصى بما يهدّد أساسه أو يعرِّضه للانهيار...

القدس: المسؤوليَّة الشرعيّة والأمانة الإلهيّة

والسؤال الذي يفرض نفسه على المسلمين في العالم، ولا سيما على منظمة المؤتمر الإسلامي، ولجنة القدس والجامعة العربية: لماذا يصرون على موقف الخانع الذليل أمام ما يحدث للفلسطينيين وللمجسد الأقصى، فيما يملأ اليهود العالم ضجيجاً إذا تعرَّض أحدٌ حتى لمقابرهم؟!

إننا نقول للمسلمين: لا تخونوا الله ورسوله وتخونوا أماناتكم في القدس المدينة، والقدس القضية، ونقول للفلسطينيين، إنَّ التمزُّق الوطني الذي يتمثل في خلافاتكم السياسية، وانشغالكم عن المقاومة التحريرية، وتوجيه الرَّصاص إلى صدور بعضكم بعضاً بدلاً من توجيهه إلى صدور المحتلّين، هو الذي أدَّى إلى هذا الضَّعف الدَّاخلي الذي يسيطر على مواقعكم، ويعطل فرص الوحدة الوطنية في عملية التنازع على السلطة، ونخشى أن تسقط القضية الفلسطينية فلسطينياً قبل أن تسقط أمريكياً وإسرائيلياً. إنّنا ندعوكم إلى الالتقاء على الوحدة الجامعة التي تنفتح على القضية المقدّسة التي حمَّلكم الله مسؤوليتها، على أساس الشعار الحاسم: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.

وفي موازاة ذلك، نؤكّد أنه على السلطات المصرية أن تقوم بمسؤولياتها في تسهيل مرور المواد الغذائية والصحية وموارد الطاقة اللازمة للفلسطينيين في غزة، بدلاً من تشديد إجراءات المراقبة، في الوقت الذي يسقط المزيد من الضحايا الفلسطينيّين بفعل الحصار الخانق الذي يفرضه العدوّ... إنّنا نريد لمصر أن تقف وقفة العنفوان الإسلامي والنّخوة العربية، وأن تؤكّد ما قاله رئيسها يوماً بأنَّها لن تسمح بتجويع الفلسطينيين، وأن تقوم بمبادراتٍ عمليةٍ في فتح معابر غزّة، ولو اقتضى الأمر فتحها يوماً في الأسبوع، بما يسدّ حاجة الفلسطينيين الضرورية.

المشهد الأمريكي: حمّ انتخابيّة وكارثة اقتصادية

أما في المشهد الأمريكي، فلا يزال الأمريكيون في المواقع السياسية في مجلسي النواب والشيوخ، وكذلك الرأي العام الأمريكي، مشغولين بالانتخابات الرئاسية بين مرشح ديموقراطي ومرشح جمهوري، قد يختلفان في تفاصيل السياسة الداخلية، ولكنَّهما يتفقان في تأييد إسرائيل بدرجات متفاوتة في انتظار الصّوت اليهودي والمال الصهيوني الذي يدعم الانتخابات من دون أن يكون للصوت العربي والإسلامي الأمريكي أيّة قوّة ضاغطة فاعلة في اختيار الرئيس وفي تبنّيه القضايا العربية والإسلامية، أو في تخفيفه من الضَّغط على الحقوق الفلسطينية.

ومن اللاّفت، في كل انتخاباتٍ رئاسيَّة أمريكية، أنَّ العرب في أنظمتهم يراقبون نتائجها، ويتابعون تصريحات هذا أو ذاك، ويتحركون مع الآمال الكاذبة التي قد يصنعها هذا الحزب أو ذاك الحزب كذباً وتضليلاً، لأنّهم اعتادوا على المواقع العربية أن تكتفي بالتصريحات التي تتطاير في الهواء في حركة الواقع المستقبلي، بينما تضغط إسرائيل للحصول على المواقف والمساعدات المالية والعسكرية والدعم السياسي المطلق، ما يوحي بالسذاجة السياسية العربية، وبالتخطيط الصهيوني الدقيق لمصالح اليهود الذي يمثِّلون وحدةً قوميةً في العالم، بينما يمثّل العرب مزقاً متناثرةً في بلدانهم.

ومن جهة أخرى، فإن المشهد الأمريكي يواجه الأزمة الاقتصادية الكارثية التي زحفت إلى أكثر من بلد عربي وأوروبي وآسيوي، بحيث أصبحت تبحث عن أيّ حلّ واقعي يوقف الانحدار الاقتصادي، والانهيار المالي، والاهتزاز المصرفي، حتى إنّ أوروبا بدأت تعيش القلق ممّا قد يجتاح اقتصادها، ما حدا بها إلى السعي للتكامل مع أمريكا للوصول إلى نتائج إيجابية تخفف من تأثير الأزمة. وتبقى دول العالم الثالث التي تعتمد على أمركة اقتصادها في اعتماده على الدولار، تعاني النتائج السلبية في الجوع والحرمان وفقدان الفرص الكفيلة بحل مشاكلها الصَّعبة المعقدَّة.

لبنان: هل يستقر؟

أما لبنان، الذي قيل إنه استطاع تجاوز الأزمة الاقتصادية العالمية، فإنّ عليه أن يواجه تأثيراتها في الرّكود والجمود الاقتصادي، ولذلك، فإن المطلوب إيجاد حال من الاستقرار السياسي الذي هو الشَّرط الأساس للاستقرار الاقتصادي، وقد تحدث بعض خبراء الاقتصاد، أنَّ الرأسمالية قد تكون أفضل نظام اقتصادي، غير أنَّ أحداً لم يقل إنَّها ستخلق استقراراً اقتصادياً واجتماعياً، بدليل وقوع أكثر من مئة أزمة في الأسواق الاقتصادية خلال الثلاثين عاماً الأخيرة، وهو ما يوحي إلينا بالبحث عن الأمراض الخبيثة التي تكمن في داخل هذا النظام الذي لا يخضع لأيَّة منظومة أخلاقية في حركته الاجتياحية للفقراء لحساب الأغنياء، في نطاق نظام العولمة الاقتصادية الاحتكارية.

ومن جانب آخر، فإنَّنا نرى أنَّ الدولة لا تزال تراوح مكانها على مستوى حلِّ الأزمات المعيشية الداخلية في المشاريع الحيوية التي تمثِّل حاجة الناس الضرورية، بعد طول الغياب عن معالجة الواقع المرضي في الأوضاع العامة وسيطرة الإهمال على حركة الدولة... هذا إضافةً إلى الجدل العقيم الذي لا يزال يدور في تسجيل النقاط السلبية على صفحات الصحف، وأجهزة الفضائيات، وتنفيس الأحقاد التاريخية، وإثارة التَّاريخ على الصَّعيد المحليّ في المشاكل التي عاشها المواطنون في الماضي والحاضر وتأصيل الشخصية المذهبية والدينية والحزبية على حساب الشخصية الوطنية التي من المفترض أن تحوّل اللبناني من طائفي أو مذهبي إلى مواطن في قضاياه الأصيلة الحيوية، الأمر الذي يجعل من المصالحات حالةً في السَّطح لا واقعاً في العمق، مما يخشى منه على البلد أن يسقط تحت تأثير أيّ عاصفةٍ خارجيَّة فيما يخطّط له الآخرون من حماية ومصالحهم الاقتصادية والأمنية والسياسية، على حسابنا وحساب شعوبنا.

إنَّ المنطقة تهتزُّ بكلِّ تحديات الأزمات الدولية وصراعاتها الاستراتيجية، فهل يملك اللبنانيون أن يحققوا لوطنهم شيئاً من الاستقرار عندما يفكرون في ما يريدونه لا في ما يريده الآخرون؟

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

في ذكرى وفاة الإمام الصّادق(ع):

قمّة كان في العلم والحوار والتّقوى والوحدة

الحرّيّة عين العبوديّة لله

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(الأحزاب:33).

من أهل البيت(ع)، الإمام جعفر بن محمَّد الصادق(ع)، الذي يصادف هذا اليوم، الخامس والعشرون من شهر شوَّال، ذكرى وفاته؛ هذا الإمام الذي عاش حياته ليملأ عقول المسلمين وغير المسلمين علماً يستطيعون من خلاله أن يفهموا الإسلام في بعده الحضاري، وفي نظامه الأخلاقي، وفي خطوطه الاجتماعية، وفي علاقاته الإنسانية، وفي تشريعاته التي تنطلق من خلال ما يصلحهم في ما أمر الله به، وفي ما يفسدهم في ما نهى الله عنه. كما أنّه(ع) أكَّد للنَّاس كلِّهم، ولا سيّما للمسلمين، أن يأخذوا بأسباب الحرية التي تنطلق من داخل الإنسان، من إرادته القوية الواعية التي يملك معها أن يقول "نعم" إذا أُلقي إليه اقتراحٌ يتناسب مع الحق، وأن يقول "لا" إذا كان الاقتراح يتناسب مع الباطل، لأنَّ الحرية في الإسلام تتمثَّل بأن يكون الإنسان حرّاً أمام العالم كلّه وعبداً لله وحده، فلا عبودية إلاّ لله، حتى إنّنا في التشهّد أثناء الصلاة، عندما نذكر رسول الله(ص)، فإننا نقول: "وأشهد أن محمداً عبده ورسوله"، وقد جاء في حديث الإمام عليّ(ع): «كفى بي عزّاً أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي ربّاً».

القوّة مصدر العزّة

وكان الإمام الصَّادق(ع) يريد للمسلمين أن يكونوا الأعزّاء في كلِّ مواقعهم أمام الآخرين، فلا يذلّ المسلم نفسه لأيّ إنسان آخر. وهذا ما جاء في تفسيره(ع) لقوله تعالى: {وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}(المنافقون:8)، قال(ع): «إن الله فوّض إلى المؤمن أموره كلَّها ـ فلك أن تتصرَّف في كلِّ أمورك بما تحبّ فيما أحلّه الله لك ـ ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً»، لكنّك لست حراً في أن تذلّ نفسك أمام أيّ إنسان أو دولة أو حزبٍ أو جماعة، لأنّ عزَّة المؤمن هي من عزَّة الله وعزَّة رسوله، ولأنّ عزّة المؤمن تمتدُّ إلى عزّة المجتمع. كما أن إذلال نفسه يمتد إلى إذلال المجتمع، ولم يتحدَّث الله تعالى عن الذلّ إلاّ بالنسبة إلى الوالدين، لا الذل الذي يسقط إنسانية الإنسان، ولكن ذلّ الرحمة، بأن يتواضع لهما ويذلّ نفسه لهما رحمةً بهما وإحساناً إليهما.

وكان الإمام الصَّادق(ع) يؤكِّد للمسلمين جميعاً أن يكونوا الأحرار والأعزَّة والأقوياء، وأن يأخذوا، كما أراد لهم الله بأسباب القوة، لأنّ القوة هي التي تؤكِّد العزّة، كما جاء في قوله تعالى: {يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للهِ جَمِيعًا}(النساء:139).

الإمام الصَّادق(ع) وثقافة الحوار

وكان الإمام الصَّادق(ع) الإنسان المنفتح على كلِّ الثقافات والانتماءات، وقد تحدَّثت كتب السَّيرة، أنّه كان يجلس في بيت الله الحرام، فيجتمع إليه الزنادقة الذين لا يؤمنون بالله ولا برسوله ولا باليوم الآخر، وكانوا يطرحون عليه أفكارهم وشبهاتهم، وكان صدره يتسع لكل ذلك، ولا يتعقّد من كلماتهم السلبية التي يتجرأون بها على تشريعات الله. ولذلك كان(ع) إمام الحوار، فكان يحاور الزنادقة، ويحاور الذين ينكرون الإمامة، وكان يراقب الحركة الثقافية في الجسم الإسلاميّ، لمواجهة أيِّ فكرٍ يبتعد عن الإسلام، بالحوار والجدال بالَّتي هي أحسن.

الصّادق(ع) مدرسة في العلم والوحدة

وكانت مدرسته(ع) هي المدرسة التي امتدَّت في حياة كلِّ المسلمين، سواء ممن يلتزمون إمامته أو ممّن لا يلتزمونها، حتى عدّ من رواة حديثه والذين تتلمذوا عليه وأخذوا من علمه، أربعة آلاف شخص، وكان من بين تلامذته إمام المذهب المالكي مالك بن أنس، وإمام المذهب الحنفي أبو حنيفة النعمان الذي كان يقول: «لولا السنتان لهلك النعمان». وكان المنصور العباسي معقّداً من هذا الامتداد الروحيّ والثقافيّ والإنسانيّ للإمام الصادق(ع) عند المسلمين، فطلب من أبي حنيفة أن يحضّر للإمام الصَّادق مسائل شديدة يطرحها عليه حتّى يحرجه، فحضّر له أربعين ألف مسألة أجاب عنها كلّها مع تبيان اختلاف الآراء حولها. وروى أحد المؤرِّخين قائلاَ: "دخلت إلى مسجد الكوفة، فرأيت تسعمائة شيخ، كلٌ يقول: حدّثني جعفر بن محمد".

وكان الإمام الصَّادق(ع) يفتح بيته لكلِّ النَّاس الّذين يقصدونه بأسئلتهم، وكان يجيب الجاهل والعالم، كما كان يؤكِّد دائماً ضرورة أن يفتح العلماء بيوتهم وعقولهم للناس كافةً، لأنَّ العلم هو أمانة الله عند العالِم، وعليه أن يؤدِّي الأمانة إلى أهلها، وقد روى عن رسول الله(ص) أنه قال: «إذا ظهرت البدع في أمّتي، فيُظهر العالم علمه، فمن لم يفعل فعليه لعنة الله».

وقد عمل الإمام الصادق(ع) على تأكيد الوحدة الإسلامية في المجتمع، فكان يأمر شيعته بأن يصلّوا جماعة المسلمين، وأن يعودوا مرضاهم، وأن يشيّعوا جنائزهم، حتى يقول الناس: "رحم الله جعفر بن محمد فلقد أدّب أصحابه"، وكان ينكر على من يتحدَّث عن الصحابة بشكلٍ سلبيّ، وكان يقول: «ما أيسر ما رضي الناس به منكم، كفّوا ألسنتكم عنهم». وكان(ع) يوصي شيعته بالوحدة والتعارف والتعاون، وأن يعود الغنيُّ الفقير، وأن يعطف القويُّ على الضَّعيف.

لقد كان الإمام الصَّادق(ع) قمةً في العلم والتقوى والاستقامة والفكر الحضاري، ويروى أنّه هو من أسس لعلم الكيمياء الذي أخذه عنه تلميذه جابر بن حيان.

لذلك، علينا أن ندرس كلَّ تراث الإمام الصادق(ع) الذي تحدَّث عن كلِّ ما يفيد الناس ويرفع مستواهم، فهكذا تكون الموالاة، لأنّ الموالاة لأئمَّة أهل البيت(ع) لا تكون بأن نتذكّرهم على أساس استحضار مآسيهم فحسب، بل أن نعمل على استحضار علومهم، وقد جاء عنه(ع): «أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا»، قيل: كيف نحيي أمركم؟ قال(ع): «يتعلّم علومنا ويعلّمها النّاس، فإنّ النّاس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا»، أن تنقلوا تراثنا وعلومنا وأساليبنا الحضارية الإنسانية للنَّاس كلِّهم، وبذلك يمكن للتشيع أن ينطلق ليكون حركةً حضاريةً منفتحةً على الإنسان والعالم كلّه، حركةً تؤكّد الحرية والعزَّة والعلم والمعرفة والقوَّة.

إنّنا نعيش في مرحلةٍ يواجَهُ المسلمون بالحروب الثقافية والإعلامية، وعلينا أن نعمل لنقدّم تراث أهل البيت(ع) الحضاريّ، ليعرف العالم أصالة الإسلام من خلال هذا التّراث، انطلاقاً من كتاب الله، وسنّة نبيه، وكلمات عليّ في نهج البلاغة، وكلمات الأئمة من أهل البيت(ع).

الخطبة الثانية

بسم الله الرَّحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، فماذا هناك؟

إسرائيل: إحياء مبادرة السّلام العربيّة

في جديد الكيان الصهيوني، إعادة إحياء ما سمّي مبادرة السلام العربية التي قال عنها شارون يوماً إنّها لا تساوي الحبر الذي كتب فيها. ويتحدث المسؤولون الصهاينة في هذه الأيام عن "مصلحة مشتركة" مع دول محور الاعتدال العربي، تدفعهم إلى طرح التفاوض مع دول المنطقة ككل، وليس على المسار السوري والفلسطيني فحسب، وتمكّنهم من مواجهة "إيران" و"حماس" و"حزب الله"، تحت عنوان الصَّفقة الشاملة مع عناصر عربية معتدلة، كما يتحدّث وزير حرب العدوّ.

ومن الواضح أنَّ العدوّ الذي خسر الكثير من رصيده، وانكسرت هيبته أمام المقاومة التي هزمته في حرب تمّوز الفائتة، والذي لا يزال يستشعر القلق والضَّعف أمام استمرار السِّجال الأمني مع فصائل الانتفاضة، بدأ يفكر في الالتفاف على الوضع القائم، والعودة إلى خيار إشغال العرب بالعرب وبالمسلمين، وخصوصاً أنَّ المتغيرات الدولية لا يبدو أنها تسير في مصلحته، ولذلك فهو يحضّر الأجواء لمراوغات جديدةٍ قد تستهوي العديد من العرب الذين يرفضون محاورة أشقّائهم وإخوانهم، ولكنَّهم يجدون متعةً في الجلوس مع الإسرائيليين على طاولةٍ واحدةٍ، وقد لا يمانعون في سلوك طريق الوحدة العربية إذا كان من طريق مصافحة الصهاينة.

وإلى جانب عروض السَّلام الملغومة، تقدم إسرائيل عروض العنف الدامي في غزوات المستوطنين على المزارعين الفلسطينيين الذين يقطفون الزيتون، حيث تحول موسم الزيتون إلى موسم مصادمات مع هؤلاء المعتدين الذين يشتبك جيش العدوّ معهم شكلياً، بعدما يوفر لهم الغطاء الكامل لعدوانهم، ثم يعتقل المزارعين الفلسطينيين ويفسح في المجال ـ في موقع آخر ـ لهؤلاء المستوطنين المتوحشين لاقتحام المسجد الأقصى، وارتكاب الأعمال الفاحشة فيه، وشرب الخمر في باحاته، في استفزازٍ خبيثٍ لمشاعر المسلمين، إلى جانب بعض الجرائم التي ترتكب في حقِّ العرب المقدسيين، حيث يتم العثور على جثث عربية مذبوحة، وحيث يتوالى الحديث عن هجماتٍ جديدة يتحضّر لها المستوطنون الصهاينة ضد الفلسطينيين في عكَّا، مع توالي عمليات الحفر تحت المسجد الأقصى بما يهدّد أساسه أو يعرِّضه للانهيار...

القدس: المسؤوليَّة الشرعيّة والأمانة الإلهيّة

والسؤال الذي يفرض نفسه على المسلمين في العالم، ولا سيما على منظمة المؤتمر الإسلامي، ولجنة القدس والجامعة العربية: لماذا يصرون على موقف الخانع الذليل أمام ما يحدث للفلسطينيين وللمجسد الأقصى، فيما يملأ اليهود العالم ضجيجاً إذا تعرَّض أحدٌ حتى لمقابرهم؟!

إننا نقول للمسلمين: لا تخونوا الله ورسوله وتخونوا أماناتكم في القدس المدينة، والقدس القضية، ونقول للفلسطينيين، إنَّ التمزُّق الوطني الذي يتمثل في خلافاتكم السياسية، وانشغالكم عن المقاومة التحريرية، وتوجيه الرَّصاص إلى صدور بعضكم بعضاً بدلاً من توجيهه إلى صدور المحتلّين، هو الذي أدَّى إلى هذا الضَّعف الدَّاخلي الذي يسيطر على مواقعكم، ويعطل فرص الوحدة الوطنية في عملية التنازع على السلطة، ونخشى أن تسقط القضية الفلسطينية فلسطينياً قبل أن تسقط أمريكياً وإسرائيلياً. إنّنا ندعوكم إلى الالتقاء على الوحدة الجامعة التي تنفتح على القضية المقدّسة التي حمَّلكم الله مسؤوليتها، على أساس الشعار الحاسم: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.

وفي موازاة ذلك، نؤكّد أنه على السلطات المصرية أن تقوم بمسؤولياتها في تسهيل مرور المواد الغذائية والصحية وموارد الطاقة اللازمة للفلسطينيين في غزة، بدلاً من تشديد إجراءات المراقبة، في الوقت الذي يسقط المزيد من الضحايا الفلسطينيّين بفعل الحصار الخانق الذي يفرضه العدوّ... إنّنا نريد لمصر أن تقف وقفة العنفوان الإسلامي والنّخوة العربية، وأن تؤكّد ما قاله رئيسها يوماً بأنَّها لن تسمح بتجويع الفلسطينيين، وأن تقوم بمبادراتٍ عمليةٍ في فتح معابر غزّة، ولو اقتضى الأمر فتحها يوماً في الأسبوع، بما يسدّ حاجة الفلسطينيين الضرورية.

المشهد الأمريكي: حمّ انتخابيّة وكارثة اقتصادية

أما في المشهد الأمريكي، فلا يزال الأمريكيون في المواقع السياسية في مجلسي النواب والشيوخ، وكذلك الرأي العام الأمريكي، مشغولين بالانتخابات الرئاسية بين مرشح ديموقراطي ومرشح جمهوري، قد يختلفان في تفاصيل السياسة الداخلية، ولكنَّهما يتفقان في تأييد إسرائيل بدرجات متفاوتة في انتظار الصّوت اليهودي والمال الصهيوني الذي يدعم الانتخابات من دون أن يكون للصوت العربي والإسلامي الأمريكي أيّة قوّة ضاغطة فاعلة في اختيار الرئيس وفي تبنّيه القضايا العربية والإسلامية، أو في تخفيفه من الضَّغط على الحقوق الفلسطينية.

ومن اللاّفت، في كل انتخاباتٍ رئاسيَّة أمريكية، أنَّ العرب في أنظمتهم يراقبون نتائجها، ويتابعون تصريحات هذا أو ذاك، ويتحركون مع الآمال الكاذبة التي قد يصنعها هذا الحزب أو ذاك الحزب كذباً وتضليلاً، لأنّهم اعتادوا على المواقع العربية أن تكتفي بالتصريحات التي تتطاير في الهواء في حركة الواقع المستقبلي، بينما تضغط إسرائيل للحصول على المواقف والمساعدات المالية والعسكرية والدعم السياسي المطلق، ما يوحي بالسذاجة السياسية العربية، وبالتخطيط الصهيوني الدقيق لمصالح اليهود الذي يمثِّلون وحدةً قوميةً في العالم، بينما يمثّل العرب مزقاً متناثرةً في بلدانهم.

ومن جهة أخرى، فإن المشهد الأمريكي يواجه الأزمة الاقتصادية الكارثية التي زحفت إلى أكثر من بلد عربي وأوروبي وآسيوي، بحيث أصبحت تبحث عن أيّ حلّ واقعي يوقف الانحدار الاقتصادي، والانهيار المالي، والاهتزاز المصرفي، حتى إنّ أوروبا بدأت تعيش القلق ممّا قد يجتاح اقتصادها، ما حدا بها إلى السعي للتكامل مع أمريكا للوصول إلى نتائج إيجابية تخفف من تأثير الأزمة. وتبقى دول العالم الثالث التي تعتمد على أمركة اقتصادها في اعتماده على الدولار، تعاني النتائج السلبية في الجوع والحرمان وفقدان الفرص الكفيلة بحل مشاكلها الصَّعبة المعقدَّة.

لبنان: هل يستقر؟

أما لبنان، الذي قيل إنه استطاع تجاوز الأزمة الاقتصادية العالمية، فإنّ عليه أن يواجه تأثيراتها في الرّكود والجمود الاقتصادي، ولذلك، فإن المطلوب إيجاد حال من الاستقرار السياسي الذي هو الشَّرط الأساس للاستقرار الاقتصادي، وقد تحدث بعض خبراء الاقتصاد، أنَّ الرأسمالية قد تكون أفضل نظام اقتصادي، غير أنَّ أحداً لم يقل إنَّها ستخلق استقراراً اقتصادياً واجتماعياً، بدليل وقوع أكثر من مئة أزمة في الأسواق الاقتصادية خلال الثلاثين عاماً الأخيرة، وهو ما يوحي إلينا بالبحث عن الأمراض الخبيثة التي تكمن في داخل هذا النظام الذي لا يخضع لأيَّة منظومة أخلاقية في حركته الاجتياحية للفقراء لحساب الأغنياء، في نطاق نظام العولمة الاقتصادية الاحتكارية.

ومن جانب آخر، فإنَّنا نرى أنَّ الدولة لا تزال تراوح مكانها على مستوى حلِّ الأزمات المعيشية الداخلية في المشاريع الحيوية التي تمثِّل حاجة الناس الضرورية، بعد طول الغياب عن معالجة الواقع المرضي في الأوضاع العامة وسيطرة الإهمال على حركة الدولة... هذا إضافةً إلى الجدل العقيم الذي لا يزال يدور في تسجيل النقاط السلبية على صفحات الصحف، وأجهزة الفضائيات، وتنفيس الأحقاد التاريخية، وإثارة التَّاريخ على الصَّعيد المحليّ في المشاكل التي عاشها المواطنون في الماضي والحاضر وتأصيل الشخصية المذهبية والدينية والحزبية على حساب الشخصية الوطنية التي من المفترض أن تحوّل اللبناني من طائفي أو مذهبي إلى مواطن في قضاياه الأصيلة الحيوية، الأمر الذي يجعل من المصالحات حالةً في السَّطح لا واقعاً في العمق، مما يخشى منه على البلد أن يسقط تحت تأثير أيّ عاصفةٍ خارجيَّة فيما يخطّط له الآخرون من حماية ومصالحهم الاقتصادية والأمنية والسياسية، على حسابنا وحساب شعوبنا.

إنَّ المنطقة تهتزُّ بكلِّ تحديات الأزمات الدولية وصراعاتها الاستراتيجية، فهل يملك اللبنانيون أن يحققوا لوطنهم شيئاً من الاستقرار عندما يفكرون في ما يريدونه لا في ما يريده الآخرون؟

اقرأ المزيد
نسخ النص نُسِخ!
تفسير